Oct 26, 2014

عمّو




"بيع الحكي"  مصطلح وافدٌ حديثاً إلى اللغة العربية التي تكاد تشعر بالغربة بين اللهجات التي قطّعت أوصالها. إلا أنه فريد من حيث معناه، فهو يصرّح بتدنّي عملة الحرف، ويبخس بحقوق النّشر وقيمة الكلمة. ولكم هو مؤسفٌ أن ندرك أناساً يستهزئون، ويتتساهلون بما تلهج به ألسنتهم، دونما أي اعتبار لما قد تترك من أثر، أو ما تتسبب من أذى.
وفي هذا السياق، لا تكاد تغيب عن بالي تلك الفتاة الصغيرة، الطالبة في رياض الأطفال.  كانت كما كل الأطفال تقف في الطابور في الفسحة، تنتظر دورها لتشتري ما تتحلّى به بعد تناولها وجبة تحضرها لها أمها كل صباح. إلا أن الملفت في القصة هذه أن الفتاة كانت تنتظر حتى يفرغ الدكان من قاصديه، ثم تدخل وتجلس قبالة البائع تحادثه. في ذلك الدكان الخشبي المركون في زاوية الملعب، كانت أجمل لحظات الفسحة. تدخل كالداخل إلى مكتب مدير ما، تجلس متفاخرة بصداقتها معه في حين قليلون هم أصدقاؤه من الأطفال، ثم يتحدثان في أشياء ربما لا يذكرانها.
هو ضخم الجثة، لا تكاد تذكر منه سوى سواد شعره الكثيف، وهي صغيرة تكاد تضيع في كفّيه.  لكن الكلمة الطيبة لم يكن ليصعب فهمها في قواميس الصغار، والبسمة لم تكن لتُتَكلف من قِبَلِه.
كبرت تلك الفتاة. وكبر البائع.هي ارتقت صفوفاً، لكنّه ارتقى سنّاً وترك المدرسة. خشب الدكان الأحمر لم يكن ليقبع هناك من غير حنان البائع ذاك، فنابت زوجته عنه. امرأة متواضعة الطول، تكلل وجهها الابتسامة ذاتها، محاطة بقسمات تعبة رسمتها الأيام على خدّيها. عيناها الخضراوان جعلا الحديث ذا نكهة ألذّ، لكنّ طفلة كتلك لم تكن لتنكر أنّ جزءاً من مودّتها للزوجة كان محفوراً سببه في ذاكرتها.
كبرت الفتاة، وأخذتها الحياة بعيداً عن ذاك الملعب، وعن تلك الزاوية،  وعن ذاك الدكان.
حدث أن كان ذاك البائع العم أبو علي، وحدث أن كانت تلك الفتاة أنا.
لا يخفى على الجميع أنّ صوراً من الماضي تعود إلينا بين الفينة والاخرى ، فتفرحنا أو تحزننا أو تؤسفنا أو حتى تبكينا.. ولا أخفيكم سراً أن وفاة العمّ أبو علي أثرت فيّ كثيراً، إذ كنت لم أره مذ آخر مرة وقف فيها في دكانه الاحمر. لكنني مع الأيام نسيته، ونسيت دكانه، وغيبت مشاغل الحياة وهموم الدراسة ولقيا الاصدقاء ذكراه كالخرقة المرمية في جبّ عميق.
وذات ليلة، زارني في منامي معاتباً. جاء الحلم كالسيّارة يمرّون بالجبّ ليشربوا، فينتشلون الخرقة  من أدناه.
 هذا الحلم كان أوّل حلم يوقظني فرحة، ثم لا يلبث أن يبكيني. وعتاب العم أبو علي لي كان أول قطعة نثرية نشرتها منذ حوالي الثلاث سنوات، لكنّه قبل ذلك، كان أول بسمة لي في كل فسحة، ففتح له أبواب الدعاء بالرحمة كلّما ذكرته.
دخلت دكان العم أبوعلي في المنام فلم يعرفني، لكنّني أرجو أن يعرف دعائي الطريق إليه. كلماته الطيبة تلك لم تُقَل لتُذكر بعد أكثر من خمسة عشر عاماً، وهذا الأمر يعطيناً درساً في أهمية انتقاء كلماتنا مع أي كان، لأن الكلمات الطيبة قد تنسى وتمحى، إلا أن القاسية منها غالباً لا تغتفر.
ذكرى العمّ أبوعلي رحمه الله أسالت حبر قلمي، ولكنّ على مدى ثلاث سنوات، احتاج القلم لكثير من الدفعات إذ وهن.
April 26, 2014