Feb 27, 2016

قصّة إبريق الزّيت


بعد محاولاتٍ عديدة باءت بالفشل، اضطرت الأمّ المنهكة لحمل ابنها إلى فراشه منصاعةً لرغبته في سماع قصّة قبل النّوم.. وبعد أن أعادت على مسمعه قصّة الرّاعي والخراف، وقصّة ليلى والذّئب وغيرها حتّى تعبت، ولكنّه لم يَنَم، بل أطلّ برأسه من تحت الغطاء ثمّ طلب بهدوء قصّة طويلة لا تنتهي..! 

سكتت الأمّ قليلاً تفكّر بحلّ سحريّ لينام ابنها.. ثمّ فتحت ثغرها وقالت بهدوء:

 هل أخبرك قصّة إبريق الزيت؟
نعم
نعم أخبرك، أم نعم لا أخبرك؟
بلى
بلى أخبرك، أم بلى لا أخبرك؟
إحكِ
أحكي قصّة إبريق الزّيت، أو لا أحكي قصّة إبريق الزّيت؟
لم أعد أريد..!
لم تعد تريد أن أحكي قصّة إبريق الزّيت، أم تريد أن أحكي قصّة إبريق الزّيت..؟
..

قصّة إبريق الزّيت التي كانت وما زالت لغزاً يحيّرني، أنا التي أتلصّص على الصفحة الأخيرة من كل كتاب، وأبحث عن نبذة عمّا أريد أن أقرأ قبل أن أفتح دفّتي الكتاب.. وكأنّها حلقة مفرغة لا تُعرف بدايتها من نهايتها. 
والحلّ إن لم تجد ما تريد قراءته،.. هو أن تكتبه!

**
السيناريو الأوّل:

كان في قديم الزّمان، رجلٌ صالحٌ كثير الكرم، اسمه العبّاد. وكان، لكثرة كرمه، ينفق ماله على الضّيف، وعلى الفقير المحتاج، وعلى المسافر الحاجّ، وعلى العابرين من السّائلين.. حتى لم يبقَ أحد في الأنحاء إلا وعرفه أو سمع بقصّة من قصص عطاءه..
وحدث أن اختلط على النّاس الأمر، فصاروا إذا حدّثوا عن بذله قنطاراً جعلوه اثنين، وإذا سقى قطة كوب ماءٍ جعلوه إناءً.. وهكذا كان، فانتقلت القصص من لسانٍ إلى آخر، وكلّما مرّت بأحدٍ زاد عليها قليلاً حتى يُدرك المستمع قدْرَ العبّاد..
وكان من بين القصص التي تناقلها النّاس حادثة تُفيد بأنّ العبّاد مرّ بجارٍ له وكان الطّقس حارّاً فأحسّ العبّاد بالعطش وطلب منه كأس ماء.. ثمّ غاب يومين وعاد إليه بإبريق زيتٍ شكراً له..
وكان للعبّاد زوجةٌ ثرثارةٌ كثيرة الشّكوى، لا تفعل في يومها أكثر من الجلوس مع جاراتها والتأفّف من سخاء العبّاد.. وفي إحدى لقاءاتها مع صويحباتها، وبينما تحدّثن في جديدهنّ، جاءت إحداهنّ على سيرة كوب الماء وإبريق الزيت، فما كان من الزّوجة إلا أن حملت نفسها وتوجّهت إلى زوجها غاضبةً يتطاير الشرر من عينيها ثمّ صاحت به قائلة:
-        هل صحيح ما سمعت؟؟؟
-        وما سمعتِ؟
-        قصّة إبريق الزيت!!
فأصبحت مضربَ مثلٍ لمن يُحدَّثُ بخبرٍ لا يُعرف له أصلٌ من الصحة..

Feb 12, 2016

حفنة حنطة ومقدار من البن

كنّا نسير مداداً كالسّيل العارم، نقطع المسافات كأنها حقول تُضحي بساتين حيثما نمُرّ، لا يفرّقنا شتات الطّرقات، فإذا وجدنا مفترقاً انقسمنا دون أن يُنقِص ذلك منّا عدداً، كأنّنا مياهٌ حُبست دون سدٍّ، ثم إذا ما فُتحت لها فوهةُ الخروج تكاثرت عليها حتى حطّمت أطرافها وفرضت طريقها للخروج.

وكنّا إذا ما مررنا بجانب البيوت أخرجنا أصحابها بقوّة صوت الحقّ، كأنّ فينا جاذباً لا يكاد يلوح في الأفق حتى يجلب الرّوح للأجساد الهامدة القابعة في خذلانها، فتنتفض وتقف كأنّ بها عزم سنين، ثم تلتحق بالجموع تاركة وراءها أشغالها وأملاكها وأولاداً يلعبون أمام عتبات المنازل، كأنّ في الدنيا أماناً على ما تخلُف وراءها، وكأنّها ذاهبة إلى غير الموت..

وكنّا حيث حلَلنا تتردّد في الأجواء نبضات قلوبنا كأنّها أصوات مدافع، فقلنا ولم ندرِ ما نقول.. ومشينا ولم ندرِ كم فعلنا.. وتكاتفنا كما لا يفعل الأشقاء..

وكنّا إذا عثَر الواحد منّا وجد الأيدي ترفعه دون أن تنظر إلى من تُمَدّ..

وكنّا إذا سار فينا الشّيخ فسحنا له، وإذا سار فينا الطّفل رفعناه على الأكفّ، وإذا سارت فينا الأخت ساويناها بنا زمنَ أضحينا كلُّنا بذرة واحدة في طين واحد..

وكانت الأرض تَطوي صفائحها ككتابٍ عظيمِ الأوراق بارز الحروف، كأنّها تحملنا على الوصول للفصول الأخيرة..

وكانت السّماء تُبرز لنا نورها تارةً، وتارةً تظلّلنا بغيم كالقطن المتناثر يجتمع بخجل أمام عين الشّمس رأفة بالمدّ الممتدّ من لا بداية إلى حيث القِبلة التي نُولّي وجوهنا شطرها..

وكانت أسراب الطّيور تُحلّق بتناغم مع أرتال البشر المصطفّين بالفطرة لا بالقيد والقانون.. وكان كلّ شيء يسبّح، من حفيف الأوراق، إلى نسمات الصّباح، إلى سكنات الّليل، كأنّ الموكب في هدوء ناسكٍ مستقبلٍ ربّه في صومعته، ثمّ ينقلب كأنّه يتلوّى في زمجرةِ لبؤة غضبى..  

وكان ما كان من سطوة العرب وهَيبتهم، فحلّقت المروحيّات ترمينا فتُغرقنا بالوَرد والرّياحين فتعلو هاماتنا وتستقيم، وتزيدنا إصراراً على الوصول، فنحن المنتصرون، ولا غالب لنا يومها بعد إذ اعتصمنا بحبل من الله، فلم يقدر علينا عدوّ ولم يفتك بنا سلاحٌ..

وأمّا أهل الفرح فكانوا يزيّنون الأسوار إذ طال ليل الحزن وآن للفجر أن يحين.. ودارت الواحدة منهن على الأخريات تجمع أكاليل الغار، وصار الواحد يجمع الفتية يتمرسّون على قصيدة يَلقَون بها الجموع على البوابة الكبيرة، ويعلون بأصواتهم حتى تصل إلى البعيد الذي لن يقدر على التقدّم لكثرة الحجيج.. وزيدت المصاطب ليستريح الوافدون، وشُرّعت البيوت للزائرين في عاصمة العالم الجديدة، وكانت من بعدها سنون كثيرة توحّد فيها العرب وذابت فيها الحدود وعادت العملة حفنة حنطة وكأسَ لبن ومقداراً من البنّ!


Feb 5, 2016

يا أختي.. لا أحد يقرأ!


في زمن أصبح فيه الكلام متاحاً للجميع، للأصوات العالية والهامسة.. للفيديوهات والمقالات والتدوينات.. في حين تستطيعين أن تشاركي بكلماتك نكتة أو قصة درامية أو فاجعة، أو حتى أن تَصِفي صحن التّحلية من بعد الغداء، يأتي أحدٌ ويسألكِ لمَ تكتبين؟ "لا أحد يقرأ في هذه الأيام يا أختي.."، "أنا أملّ عند قراءة السّطر الثاني.. ربما المشكلة أنني لا أستطيع التركيز".

صدّقي أو لا تصدّقي، لو أتتكِ ألف كلمة تحفيز وتأييد لأسلوبك أو لمستوى لغتك أو حتى لبنات أفكارك، سؤال كذاك قد يضرب نصف الألف.

لكن لحظة.
ألم تقرئي كيفية إعداد العجينة الفورية، الحلّ السّريع لإزالة البقع، وصفة التنحيف السحري، أو حتى عن فوائد الزنجبيل؟ ألا تتصفّحين يومياً حساباتك في فيسبوك وتويتر وإنستغرام و غيرها؟ ألا تتابعين صفحات اقتباسات أو كتّاب أو سياسييّن أو إعلاميّين؟ ألم تعلمي بخبر الطّائرات الروسية التي تضرب سوريا؟ ألم ترَي سكيناً تطعن مستوطناً في خبرٍ ونصف؟ ألم تقرأي بياناً لحزبٍ أو مذكّرة بقرارٍ أو نصيحة على ورقة الروزنامة؟ ألم تنقري بسبب الفضول على رابط أو اثنين يروّجان لموقع أو لحدث أو يصفان ظاهرة؟  إذاً أنت تقرئين!

قد تكون فكرة القراءة مملّة للبعض بسبب قلّة الممارسة، أو ببساطة لعدم إدراكهم للمواضيع التي قد تستدعي انتباههم حتى الجملة الأخيرة. المؤكّد أنّنا وصلنا زماناً ليس فيه من لا يقرأ، لكنّ القصور يكمن في انعدام الحوافز للاطّلاع على مواضيع مختلفة، أو عدم إعطاء الفرصة للكاتب بالتعبير عن رأيه بأكثر من جملتين، أو في مراحلَ متقدّمة، الغرق في جدليّة: أنتفع بما أقرأ، أو أقرأ ما أنتفع به.

مهما كانت الأسباب، إن لم تكونوا بنّائين، لا تهدموا بانتقاداتكم اللاذعة هِمَم المبتدئين. وإن لم يكن خيراً ما تقولون، فاصمتوا.