Apr 26, 2020

رمضان ‏في ‏الحرم


يستعد المصلون لصلاة التراويح، يتزاحمون للوصول إلى الصف الأول، ثم إلى صحن الكعبة، ثم إلى داخل الحرم، أو شرفاته، أو محيطه. 
يوم ذاك، لم نستطع إيجاد مكان أقرب إلى الكعبة من مجمع تجاري. 
إنه العشر الأخير من رمضان عام ٢٠١٠. 
يفترش الناس الأرض. كل أرض. 
تُغلق المحال قبل الصلاة بدقائق. 
كل امرء يومئذ إزاره سجادة صلاته، فتراها تغطي البلاط والاسمنت والزفت، حتى الأدراج. كل ما يمكن أن يتسع لجبهة يصبح مساحة للسجود. يتزود المصلون من مكة وغيرها للليالي الوترية، يحضرون معهم ما تيسر من تمر وماء. بعضهم يُكثر مما يُحضر ليُوزع على المصلين. 
أقف مصليةً مبتدئة في المكان الذي حظيت به. لا سجادة معي إذ إنني توقعت الصلاة في الحرم. لم أظن وأنا المسافرة إليه أن عليّ الحث بالخطوات أكثر. 
تجلس بجانبي سيدة فاضلة. تمد سجادتها لها ولي مناصفة. تسألني من أين أنا، ثم تخبرني أنها تركت بناتها اللواتي في مثل سني في منزلها الذي يبعد عن مكة قرابة الساعة. "لا استطيع أن أصلي التراويح غير هنا. رمضان يعني الحرم". 
أبتسم. ليت رمضان يعني الحرم لي كل سنة. 

أفكر الآن بعد عشر سنوات، هل تصلي تلك السيدة السنة هذه في الحرم؟ 

الله أكبر الله أكبر، حان وقت الصلاة. 

حنان فرحات ¦ ٢٠٢٠


Apr 17, 2020

خسارة!



أكتبُ الآن لأن لديّ مئة مهمّة يجب أن أنهيها غير الكتابة. لكن ما لذة الكتابة إن لم نقتنصها من مشاغلنا اقتناصاً؟ 

ترنّ في أذني منذ الصباح الباكر جملةٌ قالها أستاذ لي ولزملائي في الصف التاسع الأساسي، أي منذ 11 سنة تقريباً - مجدداً، أفكر في الماضي لأنني يجب أن أبقى حاضرة الذهن هنا في الحاضر تماماً-. 
"إن رسب أحدكم هذه السنة، سيؤخر تخرجه من الثانوية سنة كاملة. وبالتالي، فإنه سيخسر سنة كاملة هناك. سيسبقه الزمن. سيتخرج من الجامعة متأخراً سنة. سيلتحق بعمله بعد سنة. سيتزوج بعد سنة. سيخسر راتب عام كامل. ستتأخر علاوات عمله. كل ذلك بسبب هذه السنة. تفكّروا كم خسارة سيكلّفه ألا يضع كامل جهده في اختبار نهاية العام!"

علقت تلك الجملة في رأسي. صرتُ أشفق على المتأخرين. أفكر كيف سيكون شعورهم حين ينضمّون إلى صفٍّ طلابه أصغر منهم. كيف سيكون عامهم مع من هم أقلّ مرتبة في سلّم الوصول. 
صرتُ أُعمِل نفسي جاهدةً كي لا أخسر الوقت. أتطلع دائماً إلى الفرص التي ستأتي في وقتها تماماً. لن تتأخر ولن تتقدم قيدَ أنملة. 
حيت وصلتُ إلى الجامعة، لم يكن هنالك متسع من الوقت كي أرسم تفاصيل مستقبلي، لكن ذلك لم يكن مهماً بالنسبة إليّ. المهم أن أبدأ تماماً في الوقت اللازم. أن أنهي في الوقت اللازم. 

كانت عوارض الالتزام بالوقت تستفحل. بالرغم من ذلك، كنتُ أشجع من أراه متأخراً على المُضيّ قدُماً. كنتُ أفكر في أن السير مهم للوصول، مهما كان الانطلاق متأخراً. لكنني لم أستطع أن أقبل ذلك على نفسي. 
 درستُ تخصّصين في ذات الوقت، وسمحت لنفسي بأن أتأخرسنةً في إنهاء أحدهما لأنّه "اختصاصٌ ثانٍ" ولا يجب عليّ الانزلاق إلى جلْد ذاتي. 

ذاتَ مرة كنتُ أتصفح فيسبوك، وإذ بمنشور يهاجم أحد الأشخاص لكونه يستعلي على الآخرين لكثرة ما جمع من علوم. كان بمثابة صفعة لي حين ظننتُ أنني أحسنت صنعاً: "اعمل لتأكل بينما تتعلّم، اعمل لتُعيل عائلتك بينما تتعلّم، اعمل لتؤمن دواءك وأنت تتعلم، ثم افخر بنفسك".  

توالت الأيام. رأيت الكثير من المتأخرين (وفقاً لرسوبهم سنةً أكاديمية) يتجاوزونني وغيري. يختارون طرق حياتهم بشغف، ويتعاملون مع قراراتهم برويّة فيحققون ما يصبون إليه، فيما يعلَق الكثير من المتقدمين الناجحين عند خيار أو اثنين من الخيارات، فتتأخر مشاويرهم الحياتية.

مع الوقت، تلاشى وهج الجملة. 

عرفتُ أن ذلك الأستاذ كان يظن أنه يحفز الطلاب للنجاح، ولكنه زرع فيهم خوفاً أكبر، ونفخ كليشيهاتٍ مجتمعية في أذهانهم ستزيد الفرقة مع الوقت، وتوقع الخلافات.
بعد 8 سنوات  ونيّف من تلك الجملة، صرتُ مُدرّسة.

عرفتُ أن الخسارة الأكبر، هي أن يتذكرك طلابك في سياقٍ سيء الذكر، بدل أن يذكروا كلمتك الطيبة.

تعلمت أن السنةَ الأكاديمية ليست معياراً للنجاح أو الوصول. من وجد شغفه في مهنة قد لا يرغب بالتعلم الأكاديمي، ومن لديه وظيفة يستطيع الدراسة على مهل إن أحبّ، ومن يرغب ببناء أسرة يستطيع أن يجدول تعلّمه على أساسه. من يرغب بأخذ سنة أو نصف ليحدد خياراته أو ليأخذ نفساً أو ليؤمن القسط ليكمل علمه ليس متأخراً. 

والأكثر من ذلك كله، إن من يتأخر بسبب ظروف عائلية أو صحية أو كارثية كالحرب ليس متأخراً، بل هو متقدم جداً، لا ولن يسبقه حاملوا الشهادات، فالآلام والدروس الحياتية لا تدرّس في المعاهد، وأقساطها باهظة جداً، لا يرغب أحدٌ في دفعها.

صادفتُ طلاباً لي في مثل سنّي وآخرين أكبر. هذه التدوينة تحيةٌ لهم ولزملائي الذين اضطروا يوماً ما لأن يسيروا بمثل ما يتطلب المجتمع لا بمثل ما يقدرون عليه.

حنان فرحات | 2020

Apr 1, 2020

الطاعون

إنه الطاعون على الأبواب.
أغلِقت أبواب المدينة الوادعة على ساكنيها فأصبحت سجناُ كبيراً ، فيما صارت البيوت سجوناً صغيرة. أما الأضيق، فأسرّة المشافي، ومجاري الأنفاس. وأما الأطول والأصعب فالمشوار إلى الموت. 
زادت المدينة قبحاً، وذبل الربيع على طرقاتها، وصارت الفلسفات الملاذ الوحيد لفهم ما يحصل.
 ربما ليست قبيحة، تلك المدينة المتكئة على كتف الشاطئ. لكن ألبير كامو كان يراها كذلك. 
شخصياته الأرقة، القلقة، كانت تسير حيناً، وتضرب حيناً آخر، وتذهل أحياناً أخرى. 
كيف لمرضٍ بائسٍ أن يزحف كلحافٍ سميك فيرفع حرارة الناس ويضيق عليهم في أحرّ أيامهم. 
كيف للقدر أن يحوّلهم في لحظة إلى متأمّلين فيما كان من قبلُ من أحوال الحب واللقاء والفراق؟ كيف له أن يجعل التفكير مهنة، والفرح عملاً، والحزن عادة؟

ينسلّ الطاعون بهدوء إلى وهران الجزائرية، يكتب ألبير ما يرى بالتفصيل حتى لتشمّ رائحة الورد والكحول وتشارك في المآتم وتحضن الأحباء بعد اللقيا، في كلماته الكثير من المشاعر الجياشة، لربما يعود ذلك للغة الأصلية التي كتبت فيها الرواية، لكن سهيل إدريس أبدع في ترجمتها فلا تعرف أن لها أصلاً غير العربية. 

 قد يملّ البعض عند قراءتها، وقد يستصعب البعض مفرداتها. لكنني أحببتها بقدر ما آلمتني.

* يفسر البعض الطاعون سياسياً فيعتبرون أن ألبير إنما وصف دخول النازيين إلى فرنسا بالطاعون، وآخرون اعتبروا أن الطاعون مجرّد وصف شامل لكل شر قد يحل على البشر.

*ولد ألبير كامو لأم اسبانية مصابة بصمم جزئي وأب فرنسي توفي في صغره، له أخ أكبر، تزوج مرتين ثم لم يؤمن بالشراكة الزوجية، له  توأم من زوجته الثانية، توفي في حادث سير وهو بعمر ال46 بعد سنتين من نيله جائزة نوبل، وجد في محفظته مخطوط غير مكتمل عن سيرت الذاتية
* كتب ألبير كامو الناشئ في بيئة فقيرة في الجزائر روايته الطاعون إبان الاستعمار الفرنسي للجزائر، تفوق في دراسته واستحصل على منحة لإكمال تعليمه في الجزائر حيث درس الفلسفة

*لم أحب في الكتاب بعض النفحات في الترنح بين الإلحاد والإيمان ولكنني أتفهم وجودها


حنان فرحات ¦ ٢٠٢٠