Dec 24, 2018

كسرٌ وجبرْ

لقد كان مكانه محفوظاً... لكن ما كل شيء يُقدّر له البقاء. وبالرغم أن أيامي معه كانت جميلة، لكنّ استمراريتنا سوياً لم تكن لتكون بالضرورة ذات منفعة... بل بالعكس، فمحاولته الاعتداء على مكانة غيره وتمدده يمنة ويسرة من دون إذن اضطرتني أن أتخذ تدبيراً جاداً.. لكنني قلتُ أصبر. فهو قد استوطن قطعة من قلبي، وأصبح جزءاً من ماهيتي، يشار إليه كما لو أنه لي، يحزنني سوء حاله ويشرق وجهي متى تحسّن...
مرت الأيام والأسابيع والشهور. يوماً يحزن ويألَمُ فيُكدّر صفو أيامي، ويوماً يهدأ فأستكين وأقول "تعقّلَ الصبيّ" ،ثم يغافلني ويعتدي على غير مكانته فيَّ فأغضب وأتوعّده بأن أنتشله من جذوره فلا أبقي له ذكرى ولا أثراً..
وكنت، كلما أحزنني، هممت باجتثاثه من أصله، فتهدّئ "هي" من روعي وتؤجلني إلى أن يصير في الوقت متسع... فهو، إن ذهب، سيترك أثراً ولو بادئ الأمر.. وليس بمأمون غدره ولا ثأره.. وسيحفر مكانه هوّةً لا يكويها إلا الوقت.. ولا يوقف نزيفها إلا الانتظار والتصبّر...
ويوماً ما، أشرقت الشمس. كان في الوقت متسع، وكان هو قد ترنح واعتدى إلى ما شاء الله، ولم يعد للصبر عليه حجة.. فقررنا أنا و"هي" التساعد حتى نتخلص منه.
قالت: أولاً تنسين كل ما يتعلق به. وجوده وأثره وماضيه... كأنك مخدّرة!
ثم نحاول أن نزعزعه ب"قوة" العقل والمنطق لعل ثقته بنفسه "تهتز"..
ثم بعد ذلك نلجأ إلى القوة الفعلية، فأمدّ يدي إليه وانتزعه بكل ما أوتيت من قوة...
وإلا، فإننا نعيد ما اتفقنا عليه حتى يتم الأمر.. ومتى احتجت أن ترتاحي، كان لك ما أردت.
ولما انصعت لها، وسلمت أمري وأمره إليها، وكان ما كان من شدّ وأخذ وردّ، كدت أشفق عليه منها، وصرت استذكر محاسنه، وأنه لو لم يكن وفياً لما تشبث بي هكذا، وكدت أنسى اعتداءاته ونكرانه للجميل لوهلة، وهممت بأن أمسك يدها واحثها على العدول عن مهمتها، لما رأيتها ابتسمت وقد انتزعته من مكانه بعدما أخذت قطعة من قلبي معه! ترك المغضوب عليه حفرة مكانه، بانتظار الوقت أن يجبر كسر غيابه...

#تحت_يد_طبيبة_الأسنان
#حملة_لا_تتعاطفوا_مع_أضراس_العقل

حنان فرحات | ٢٠١٨

Oct 17, 2018

ملاك بالسما

" ساكن بشقة مستأجرها ابني الله يرحمه. كان عسكري وتوفى بحادث سير على طريق - -.
توفى من سنة وشهرين.

عندي غيره بنت. زوّجتها من شهر ونص. كانوا توأم. بوعى كل يوم الصبح الساعة 5. بشرب ارغيلة ساعة وبنزل من بيتي ب-- عبيروت. بوصّل مرتي عشغلها بال-- وبشتغل عالسيارة كل النهار. الساعة 5 بجيبها ومنرجع عالبيت.

بتضل الارغيلة بصندوق السيارة. بس كون ناطر عند الكهربجي او بمحطة البنزين بتسلى فيها. واذا مارق من منطقة-- بمرق عند امي بأرغل نص ساعة.

عم حاول اتركها. مرتي قالت اذا بوقّف الارغيلة بتوقّف هي تدخين. قلتلها ماشي، مسكت نربيش الأرغيلة جالس، وقلتها ليكي وقّفتو. كل ما وقّف بترجع بتعمل قهوة. مش طيبة القهوة بلا شي. برجع بقلها ولعيلي نارة.

لو ما بتشتغل كانت بتفقع. هيديك المرة رِجِعت عالبيت قالتلي اتسلينا أنا وابنك. كنا عم نحكي من الصبح. مديتلها ايدي ميكروفون وقلتلها "بالله؟ شو قلك!" بتضل ماسكة هالصورة وعم تبوسه. عجبينه وعخدوده. أنا بحبها كتير. صورتها على طول معي. شو بدي أعمل... أنا بقوّيها، وبس اجي عالسيارة بحكي مع حالي. ببلش هزّ كلّي سوا. بس توفى بيي من 3 سنين صار معي الضغط. وبس توفى ابني صار معي مرتين.

يرحم ترابه. صار عنا ملاك بالسما".

حنان فرحات | ٢٠١٨

Sep 24, 2018

ظل

كانت شجرةً عملاقةً، تحب الجميع ويحبونها.. وكانت تطرح ظلها على الأرض ليحبوَ الأطفال، وعلى الحائط ليتسلق الفتيان، ثم تتطلع إلى أعلى فتفرش بقاياه على الشرفة كي يجلس الكبار...
ثم جاء يوم وكبر الطفل الذي كان يحبو، وما عاد متسلقاً للجدران، فقد وجد له قلباً مستَقَرّاً. هوى الوالد بالفأس على الجذع ينتزعه انتزاعاً كي يبني جدراناً أخرى يتسع في رقعتها الفيء...
وصار طفل الأمس أباً، وصار له ابن، وأتبع بأخوة كُثُرٍ، كلما أووا إلى الفراش سمعوا أنين اشتياق. كان الجذر حانياً عنقه تحت وطأة المنزل، يحاول عبثاً أن يخرج ويرفع أغصانه ابتهالاً إلى السماء... وظل الوالد يرى كلما خلد إلى النوم ظل الشجرة يمد يديه إلى قلبه يعتصره ليستجديه، فيستيقظ هلعاً.

حنان فرحات | ٢٠١٨

Aug 29, 2018

مرةٌ، لا "مرّتين"

دمتِ صديقةً لي طول العمر. كل عام وأنت الأغلى. حماك الله يا توأم الروح ويا بلسم الجراح، يا من لن يأتي الزمان بمثله أبداً..

تبدع في وصف الأشخاص والعلاقات والأشياء، فيصنف هذا بال"أفضل" وال"أغلى" وال"أثمن" والذي لم يكن ولن يكون له مثيل.

الواقع ألا أحد ولا شيء هو الأفضل، وإن كان كذلك فلن تدركه أنت بمحدودية عقلك...

والواقع أيضاً أن لا شيء له مثيل.
لا شخص يوجد مرتين، ولا شيء يحصل تماماً مرتين، ولا جملةً تستطيع أنت أن تركّبها مرتين.. ولا أغنية ترددها باللحن ذاته ذاته مرتين!

حتى الأحلام تراها "كأنها" حقيقة، والوقائع تحصل أخيراً "كأنها" الأمنيات قيد التحقق.
فستانك "كأنه" خيط لك، والمنصب "كأنه" فُصِّل لك، والقصيدة "كأنها" نُظمت لك، والمقولة "كأنها" موجهة إليك!

كل شيء فريدٌ بشكله ووصفه ومشاعرك تجاهه، وكل شخص فيه ما تحب وتكره، وكل شخص لك نظرة تخصك إلى عيوبه ومحامده...

قِسْ بميزان العدل رضي الله عنك، ولا تسرف على العلن بما لا يخص الناس، كي لا تفسد عليك فرادة المودة ولا تأسف لاحقاً على ما أكثرتْ وأجزلت.

حنان فرحات | ٢٠١٨

May 3, 2018

ذاكرة القلم

كان عمري ثماني عشرة سنة، وكنت أنظر إلى المدينة كنهاية وادعةٍ لقصةِ فلاح انتهى كاتباً مبهِراً.
كانت الضيعة الساحة التي يلعب بها ذلك الحلم، وكانت المنعطفات انكساراته اللطيفة، وحدود الطرقات الضيقة حوافّ القصة مُجبرةً. وكان في الضيعة ما كان من خلافات الإخوة والجيران التي تُمسحُ "بمسحة رسول" لما يبزغ فجر العيد. وكانت الحلويات التي تعجن بالفرح وتحشى بدعوة هناء تدخل إلى القلب بهجة عند الصغير والكبير..
ولكنني كنت أنظر إلى كتابات "الكبار" فأرى وأسمع عن ضيعة تحمل ذات الاسم، بملامح أخرى. وكنت أقرأ فأجد الكاتب قد أوفر الحديث عن السعادة التي كانت وولّت حيث أدبر زمانها.. وإذ ذاك كنت أشفق على قلمي، ماذا سيكتب، وأين ذاكرته من ذاكرة الأقدمين، وكيف يكشف غبار السنين؟
وإذ هرولت الأيام، أُكِلت من أطباقنا البركة وخفَت نور النهار حتى بدا كاتصال بسنا القمر، ولم نَعد نحصي العمر بالأيام بل بالسنين.. زحفت المدينة إلى الضيعة واستوطنت بين جنباتها، وأصبح للضيعة "سعادة ولّت"، وغدا الجميع أشتاتاً، وطال انتظار العيد الذي ما عاد يعجن حلوُه بماء "العين"، فصار يقتصر على مرّ القهوة تفادياً لآثار "السكري".
ولكن القلم الذي أصبح بعد سبع سنين قادراً على رثاء الضيعة أصابته نوبة سعال من الغبار الذي غزا واقعه.. لربما تنقشع الضبابة فيعود ليكتب أو تكون "البقية" لحياتي.

حنان فرحات | ٢٠١٨

Jan 9, 2018

إزعاج


لا تعجبني الأشياء العادية، ولا الأشياء الضخمة. وفية جداً للتفاصيل؛ حاملة مفاتيح، زر من اللون المفضل، أقلام ملونة، ريشات رسم لم تصنع لتستعمل، ودفاتر صغيرة بعدد اللقاءات.

يزعجني التكلم بضمير الجماعة،  والنرجيلة، والألقاب حيث لا مقام احترام.
تزعجني الرغبة بإصلاح المجتمع قبل إصلاح النفس.
يزعجني الكلام عن الانجازات كأن لا أحد أنجز مثلها، وعن العلاقات العابرة على أنها مفخرة.
يزعجني التملق، والرغبة بالتألق، والسعي للشهرة، والرغبة اللاارادية بالبكاء، واحمرار الخدين، والسباب والشتم، وازداوجية المعايير، وتعدد الأوجه.
والسياسة.
وكل كلمة من أعلاه تساوي بحراً من الوصف والإيضاح، لكنني أؤثر عدم الإسراف ههنا. وإن كان كل ذلك يزعجني، فليس أكثرَ مما يسعدني.

لا أذكر أنني فرحت فرحاً غامراً إلا مرتين. كل محاولات مفاجأتي كانت تكشف قبل دقائق، فتذوب الفرحة. تبقى فرقعاتها القليلة الباهتة كلغم مفرقعات رطب، فشلتْ محاولة إشعاله لكنه حاول قدر جهده أن يؤدي غرضه قبل أن تنتهي حياته. لكنني أؤمن أن السعادة صنعة تبدأ من الرضى. وإن ترنحنا في حياتنا بين الحزن والفرح، والانزعاج والقبول والتأقلم والرضى، فإن الغالبَ حيث تميل الكفّ ويميل القلب.

تبنى السعادة على الانكسار، ويبنى النكد على أكوام من العطاءات. وما لَبِناتُ بناء الفردَ إلا من اختياره.