Jan 30, 2020

وجبة سريعة





أوصل طلبيته الأخيرة إلى زبون أصابه الجوع مع بزوغ الفجر، ثم أكملَ إلى منزله شبه غافٍ. ضحك من سخرية الحال؛ يوصل أشهى المأكولات ساخنةً بأسرعَ ما يمكن كي يُبقي على علاقة الزبون بالمطعم مميزةً، متحمّلاً مزاجيّتهم في اختيار توقيت تناول الطعام، وقلة ذوقهم أثناء استلامهم الطلبيات في كثير من الأحيان، وحتى أسئلتهم الحشرية أو نكاتهم السخيفة، لكنه حين يقفُل عائداً إلى وَكرِه مع بداية النهار، صديقُه الوحيد السّاهر هو الجوع، يجد نفسه يغلي كوب ماء يسكبه فوق وجبة المعكرونة سريعة التحضير ويتناولها بِنَهم قبل أن يَنكَبَّ نائماً على وجهه من فرط النعاس. 

يزعجه العمل في الليل كثيراً ولو أنَّ الناس في ذلك الوقت الحساس يصبحون أسخى، حيث إن كرامته لا تسمح -بكلّ الأحوال- أن يتقاضى البقشيش زيادة عن كلفة الطلبية بالرغم من الزيادة الملحوظة التي تُحدِثها على مدخوله. تبدو فكرة تقاضيها عبر التطبيق مباشرةً عند طلب الزبون ألطف؛ كما لو أنّ البقشيش يكون للمطعم بذاته، لا له. في هذه الحالة، لا يقلّ المبلغ أو يزيد حسب وسامته أو لُطفه، بل حسب مزاج وقُدرة الزبون. 

يتساءل أحياناً عن آرائهم به، أو الأفكار التي تجول في أذهانهم حين يفتحون له الباب بلهفة. يوقن أن اللهفة للوجبة التي يحملُ بعناية، لا له على وجه الخصوص، ولكنّه كان قبلُ ممن يطلبون الطعام إلى المنزل مع خدمة التوصيل –حصراً حين كان يضطر-. بالطبع لم يكن يطلب الطعام ليلاً، لكنّه –حين كان يطلبه وحيداً- كان يفكّر في مدى الحاجة التي تجعل شخصاً يُسخّر وقته لتلبية طلبات أناسٍ لا يعرفهم مقابل بدل مالي. ولو زادت مدة الانتظار، كان يرسمُ في مخيلته سيناريوهات عديدة لحيوات عمّال التوصيل. ربما معيلٌ لأسرة فقيرة، أو ابنٌ بكرٌ يتيم، أو طالبٌ يؤمّن مصروف جامعته. لم يتخيل يوماً أنه سيكون المرسوم في خيال أحد الزبائن بينما يوصل بنفسه الطلبية إليه. 



حنان فرحات | 26-12-2019

Jan 11, 2020

طابة

كالنيزك يضرب الأرض دونما استئذان، هوَيْتِ من السماء كأنكِ مطر السماء، ولم يحلُ لكِ أن تهبطي إلا على وجهي.

لا ضيرَ يا آنسة طابة، لكن خير الضيوف المستأذنون. مالَك تعبثين بوجهي كأنه عدوك اللدود، وتتركين آثار أصابعك على خدّيّ كالطفل اللعوب، لا يفقه الجدّ من المزاح!

#حنان_فرحات ٢٠٢٠
#تمرين_كتابة 

طيف الغمام

مرّت العملية بسلام.

مضت دقائقَ تفكّرٍ تحت جهاز معقد، لا يدرك المرء إلا ضوءه ورائحة احتراقٍ طفيفة ثم ينقشع الضباب وتتضح الرؤية؛ كأنما انقشع الغمام.

من كان يتخيل أن سنواتٍ قُضيت بصحبة النظارات الطبية ستؤول إلى الزوال، ويحلّ محلّها نظر سليمٌ تبرز فيه التفاصيل وتنجلي له آيات الجمال.

كانت أولُ فرحةٍ لمّا بزغ الصباح. فتحت عيني. ممنوع عليّ فركهما. رفعتُ رأسي عن المخدة ليسبح نظري في الغرفة. إنني أرى الساعة بوضوح على بعد مترين! كم يبدو شريط الأخبار لطيفاً بخطّه الصغير بعد ذلك! ولِمَ لم أنتبه يوماً أن الشجرة في دار منزلنا جميلة إلى هذا الحد؛ كثيفة الأوراق والأغصان. لكن لا يخفى على أحدٍ أن الإعلانات على جانبي الشارع أصبحت مزعجة. 

لقد أبهت ضعف البصر كثيراً من التفاصيل البديعة، وكان عوناً على غيرها، ثم أصبح فيما بعد سبباً في استشعار قيمتها واستذكار وجودها كل فينة.

مرت العملية بسلام، اتضح فيها البصر وتقوّت فيه البصيرة؛ كم من ما لا نراه وفيه الحلاوة، وما نراه وفيه البلوى. وكم من عابر سبيل يرى، وناظرٍ لا يرى.

#حنان_فرحات ٢٠٢٠ 
#تمرين_كتابة ١٢

Jan 8, 2020

ألعوبة

جِلسة المُعاقُب صعبة. جِلسةُ المظلوم أصعب. نشيج المحروم مسموع، صوتُ الموجوع أعلى. ولو أن الزوايا عرفت النوايا، لأصبحت منحنيات. لكن هيهات، هل يسمع الجدار إلا ما لا يجب من الأسرار؟ ليته يسمع الأنين فيحنّ على الشاكي ويلين. ليت السقف يصبح صدراً يتسع لعناقٍ طويل، وليت النافذة تكون، للحظة، مصدر السكون. لكن كثرة التمني لا تورث الغنى، ولا راحة البال. بل قد تزيد الشقاء كلما طال الموّال. وكلما طال الموّال، ضاق ذرعاً البال،... وزادت جِلسةُ المعاقب هماً.. وصعوبة. لكن ماذا يهم؟ فهو-وإن كان مظلوماً- في يد سيده ألعوبة!


#حنان_فرحات ٢٠٢٠
#تمرين_كتابة 

حُجّة

ظننتُ أن فرحتي ستكتمل لو عملت في مكتبة، أو سكنتُ فيها. وكان الخيار الثاني أنسب كلما دغدغتني الفكرة. لن أضطر لعمل شيء... أتفرغ للقراءة. كوب شاي سيَفي بالغرض لو صاحت معدتي، أو كَسُل دماغي. ولكنني اليوم بينما أتخيل المكتبة عالمي، راودني شعور غريب. نظرتُ حولي وإذ بالكتب تتحرك. وإذا بالرفوف تميل، وإذا بالجدران تهمّ بأن تدور. ركزت نظري إلى الأرض وحاولت العودة إلى الواقع. حاصرتني الأوراق الهاربة من دفات الكتب؛ الكلمات التي لم تسنح لها الفرصة بأن ترَاها عين، والعناوين التي لم يسبق لها أن ولجت قلباً. صرتُ كلما تحرّكتْ أعي حجم التقصير. لن أستطيع ولو عشتُ للأبد أن أقرأ كل هذا الكمّ من الكتب. لن أفيَها حقها بالقراءة والإعادة. ولن تكون لي حُجّة: أنا أسكنُ المكتبة!

#حنان_فرحات ٢٠٢٠
#تمرين_كتابة 

Jan 7, 2020

توضيب

هيّأتُ الزاد وأخذت نفساً طويلاً ثمّ عُدتُ لإفراغ الحقيبة. كيف لمن مرّت عليه السنون الظنّ بأن المتاع يقيه شر السفر. أمسكت بالفنجان وأعدته إلى مكانه في المطبخ. لن يداوي الشرب به الحنين. ثم تناولتُ معطفاً من  عدةٍ كنتُ قد وضبتهم. لن يطفئ بفرائه الشوق. صورة. لن توصل ملامح النضج التي تنبتُ حالما أغيب. مناديل ورقية. كأنّ المناديل ستنقرض. مسكن للآلام. مراهم للأوجاع. سينقسم ظهري وتفنى مفاصلي من ثقل الحقيبة لا من السفر. علبة دموع لجفاف العين. وكأن العين تجف حين تُفارق. هاتف. شاحن. شاحنٌ آخر. قنينة الماء المفضلة. أكوام من الأقلام والدفاتر المفضلة. من قال إنها ستبقى مفضلة؟ ماذا لو كان في الغياب ما هو أفضل. ماذا لو أن ما في القلب تحمله الحقيبة. ماذا لو أضع في القلب آلة الكتابة ومكتبتي والكتب وكرات الصوف ودفاتر الملاحظات.. ماذا لو أحمل في قلبي ما لا تتسع له الحقيبة؟

#حنان_فرحات ٢٠٢٠
#تمرين_كتابة 

Jan 6, 2020

لا مثيل له

كلّ يوم أنحت العصفور ذاته على لوحٍ خشبي ذو قياسٍ ثابت، وكل يوم تكون اللوحة من نصيب أحد: سائحٌ ينظر إلى العصفور كأنه صيده الثمين، شاب يصر على أن هذه اللوحة هي أنسب هدية لصديقته، رجلٌ يبدو كجامع للأثريات،... وحدي أنا الذي أكرر الفعل كل يوم. أنحت عصفوراً "ليس له مثيل في السوق"، قطعة واحدة لا تتكرر. التفاصيل ذاتها، كل يوم أدقها فتصدر الموسيقى نفسها وهي تشق ملامحها على اللوح. وحدي أنا الموقن تماماً أنني لا أكذب. لا شيء يُعاد مرتين. لا عصفور يطابق الآخر تماماً. الرجفة التي تعتريني كلما نقشت عينه تؤكد ذلك. 

#حنان_فرحات ٢٠٢٠
#تمرين_كتابة 

Jan 5, 2020

قيد الانتظار


أزهَرَ اللوز ولمّا تَصِل الرسالة. كان مُضحِكاً أنني أرسلتها في زمن الانترنت، وتَبِعتُها عبره بنظام الترقّب لضمان وُصولها، لكنها ضلّت سبيلها على أحد مفترق الطرق. كَتَبتُ فيها جملتين مقتضبتين، لأنّ الهدف لم يكن الكلمات بل فكرةَ الرسالة بحدّ ذاتها.

على الطرف الآخر كانت صديقتي تنتظر الرسالة على أحرّ من الجمر. ترسل لي رسالة نصية مساء كل يومٍ تستفسر فيها عن محطّة الرسالة التالية. مَضَت الأيام العشر ولم تصِل الرسالة. ثمّ أقبل الشتاء وتراكمت الثلوج، وصديقتي التي لم تَعُد تُرسِل لي رسالة يومياً، ظلّت تُراقب مدخل دار بيتها من النافذة لعلّ ساعي البريد يُطِلّ وبيده الظرف المنشود.

أزهر اللوز ولمّا يأتِ ساعي البريد، ولا بانَ للرسالة أثر. زُرتُ صديقتي أستأنس معها ساعةً من الزمن، فاقتربتْ منّي اقتراب المُذنِب وهمست لي: "صرتُ أخافُ أن تصِل... ماذا سأنتظر بعد ذلك؟".

#حنان_فرحات ٢٠٢٠
#تمرين_كتابة ٧

من للوحيدِ؟


فكرةٌ واحدة تضيء مصباحاً، وسيلٌ منها يكاد يضيء المدينة. فمن للوحيدِ سوى فكرته، تكونُ الرفيق المؤنس والمُحاورَ المناور..
ومنِ المجموعة إذا لم تتّحد على فكرة؟ ومن العائلة والأصدقاء؟ وما السفر والسهر؟ وما الترحال أو المستقرّ؟ وما الأمسُ إذا طواه النسيان؟ وما الحاضرُ غداً إذا لم يعِش في الذاكرة؟
ما الحروف إذا لم يجمعها المعنى؟ وما الكلمات إذا لم يجمعها المبنى؟ وما النصوص إذا لم تُقِف على فكرة، أقَلُّها في فقرة؟

#تمرين_كتابة ٦
#حنان_فرحات ٢٠٢٠

Jan 2, 2020

حذاء للبيع


مشكلتي التفاصيل.. المهمة. أنسى الأسماء، والوجوه والتواريخ وعناوين الأشياء. لكنني لا أنسى الأشياء. يبدو الأمر مضحكاً لمجرد ذِكره بهذه البساطة بينما أقع في الحرج مرّات ومرّات بسببه. إلا أن زبدة الأمر هي ما يهم، أليس كذلك؟
قيل أفصح القصص وأكثرها متانةً تلك التي لا يمكن أن تُنقص منها حرفاً، وقيل بل هي التي لا تستطيع أن تزيد عليها، فمعناها كاملٌ وموزون. وقيل: قدْر المستطاع اختصر! وقيل بل صِف واسترسل! وقيل لا تكتب عن الكتابة، فذلك أسخف ما قد يكون. وقيل ما يكونُ المكتوبُ غير عن ما يهيم به المرء؟ وهل يهيم الكاتب بغير كتابته؟ بل هل يفهم كيف تشده الأوراق بعنفٍ، أو كيف تضرب حَرْبَةُ الكلمات صدره؟ أوَ يفهم كيف تُغزَلُ الحبكة وتُخاط المعاني فيما ينامُ نومة أهل الكهف؟
هل لا يُكتبُ عن فن، أو بِدعةٍ، أو نعمةٍ، أو صِنعة تخرج مكنونات القلب إلى حيث نِعمَ المستقر؟
ألا يُكتبُ في فهمِ لغةٍ تستطيع تلخيص كونٍ بأسره في عدة كلمات؟ كأن تقول مثلاً : "حذاء رضيع للبيع، لم يلبس قط"؟
#حنان_فرحات
#تمرين_كتابة
٢٠٢٠

Jan 1, 2020

أخبار النيزك الذي سيضرب الأرض

تابعتُ في أواخر ٢٠١٩ صفحة
اخبار النيزك الذي سيضرب الأرض على فيسبوك. 

كل ما في الأمر أن المنشور ذاته ينشر كل يوم بذات الصيغة، مخبراً المتابعين أن النيزك لا يزال في الفضاء. 

أما الغريب العجيب، هو أنني وجدتُ نفسي أتفاعل مع المنشور كل يوم بطريقة، حسب مزاجي(مع علمي التام بأن الصفحة للفكاهة).

فلو كنت سعيدة، تكون ردة الفعل على المنشور "أحببته♥️" حيث هنالك متسع للحياة قبل وصول النيزك، 
ولو كنت فرِحة قد أتفاعل ب "أضحكني😝" من سخافة المنشور، 
أما لو كنت منشغلة (وأتصفح الفيسبوك) فأكتفي ب"أعجبني👍🏼" لأداء الأدمن المميز، 
وبالطبع، حال الغضب أو الحزن، يكون رد الفعل "أغضبني😡" أو "أحزنني☹️" حيث يكون الأمر مستلزماً وجودَ نيزكٍ لكنه لا يزال في الفضاء :). 

يمكننا أن نسحب هذا الأمر على بقية المنشورات.
إن الواحد منا يتفاعل مع منشورات الأصدقاء وغيرهم حسب حالته النفسية غالباً، وقلّما يكون التفاعل بموضوعية، ما يزيد المجال لسوء الفهم كلما ساء مزاج المتابِع.

#في_وداع_٢٠١٩
٣١-١٢-٢٠١٩
حنان فرحات 

كِذبة


"قل لي ولو كذباً كلاماً ناعماً"، يقولها الأستاذ ويسير نحوي بتؤدة: "حنان. ماذا يقصد نزار بشطر البيت هذا؟"
أتنحنح في جلستي وأتمتم لنفسي بكلمات لا تصل إلى أذنيه.
"ماذا؟ قلتِ شيئاً؟"، يقول بصوته الجهوري.

أحب حصة اللغة العربية، وكتابة النصوص تحديداً، لكن تحليل ما كتبه شخصٌ معيّن لا يبدو لي على قدْر من الأهمية. ماذا يهمّ صبيّة أحلامها بِاتساع الكون من تحليل نص كتبه شخصٌ أكل الدهر على رُفاته وشرب...

"ما زلتُ بانتظار إجابتك،"
"لا أدري"
"حاولي، أنا موقنٌ أن لديك تفسيراً ما"،
"ربما يقصد.."

يقصد أن صبيّةً غبية تشحذ الاهتمام ولو كذباً! عدا عن أن الكذب إثمٌ قد يطول أنفنا بسببه، أو يُقطع لساننا - حسب الراوي-، لا كبرياء لديها لتطلب من شخصٍ سيكتبها يوماً في قصيدة ويأخذها يميناً ويساراً في بحور المعاني بينما يفسّر نظرتها! أغضب في نفسي منها، سوّدت وجهنا بنت الأوادم.

"يقصد؟"
" تسأل الفتاةُ الكاتب أن ينطق ويخرج من جموده ولو ادّعاءً، لأنه بحسب ظنها سيقول ما تودّ سماعه حقيقةً، لولا أن كبرياءه يمنعه من ذلك."
"وما الذي يدعم إجابتك؟"
"شطر البيت الثاني: قد كاد يقتلني بك التمثال. ومن بعدها تعريفه للحب الذي يبدو مختلفاً عما تختزله هي في سؤالها"
" جميل، أكمل لنا يا سعيد.. "

أعود إلى أفكاري. حُبُه هو اليد التي يقبّلها ولكنها تغتاله، إحساسه الدفين في صنمه، وسرّه الذي سيمزّقه، المعاني التي أراد أن يخبئها في صدره لكنها نبتت قصيدة تعذّبنا في حصص اللغة العربية.


#تمرين_كتابة 
#حنان_فرحات | ٢٠٢٠