تجلسُ على مقعدك، أمامك الكتاب والدفتر، ومن حوْلك الصّحبُ والأقلام. تستمع بِيقظة لما يقوله أستاذك، متنبّهاً لأيّ سؤالٍ قد يرميه القدَرُ من فَمِهِ إليك. الصفحةُ الخامسة والعشرون، تسمعه يلفظ أحرف الأرقام بِتُؤدة فَتهْرع إلى قلْبِ الصفحة حتى لا يصلَ قَبْلَكَ فَتُفوّت المعاني التي بالكاد تدخل رأسَك من أذنيك. تُمرّر يدك على السطور بينما تنبثقُ تِباعاً من بلعومِهِ الكلماتُ لتنتشر في الأرجاء.

 تجلسُ بكلّ أدب وهدوء، وحين يحين دورك تقرأ فِقرَةً بصوتك الجهوريّ في الملعب، المبحوح في غرفة الصفّ. يُثني الأستاذ على قراءتك ويُصوّب لك الحركة الأخيرة من كلمة "البديعة" ثم ينتقل إلى أسئلة ما بعد النص.

يبدأ بالحواشي، فينقضّ بدايةً على العنوان. من كم كلمة يتألف، وهل دلالته مباشرة أم مكنونة، وماذا قصَدَ الكاتب به ومنه وماذا بنى عليه.. وهل تُراه كان مستلقياً حين اختاره، أم متّكئاً على جذع شجرة، أم واقفاً بجانب عامود إنارة يتيم.. ثمّ يحاول التنبّؤ بزمان اختياره له، جازماً بأنّ الكاتب قد اختاره بعد أن كتب ما كتب، إذ إنّه لا يمكن أن يختار ما قد فعل دون أن يكون قد عبّر عن مكنونات صدره، فيأتي مناسباً لما قد ثبَت. بعد ذلك تحين مرحلة التعارف..

يقفز إلى الكاتب الذي يُطِلّ إليك من خلال صورة تزيد عليها خطوطاً كلّما دبّ فيك اليأس من إمكانية انتهاء الحصة الدراسية. فإن كان أصلعاً لا ضيرَ من زرع بعض الشَّعْر له، وإن كانت سيّدةً فلا مشكلة بزيادة شاربين ملتفّين كما في صور "البَيْكِ" في كتاب التاريخ، وإن كان ساعداها بائنين أمكَن سترهما بتلوينهما متى اقتضى الأمر. 

يُخبرك الأستاذ أنّ عليك حفظ اسم البلدة التي وُلِد فيها الكاتب، وتاريخي ولادته ووفاته إن كان متوفًّى، وبهذا تجد نفسك تدعو بطول العُمرِ لكُتّابِ كِتابِ اللغة العربية حتى تُنقِص الأرقام التي ستحاول حشْوَ رأسك بها ليلة الامتحان. تُفكّر هل كان هذا الكاتب بائساً، مثلكَ، في حصص اللغة العربية، أم أنّه لم يكن يحتاج أن يتعلّم؟ يقطع سيل أفكارك صوتُ الأستاذ يُخبِرك في أي مدرسة تلقّى الكاتب تعليمه، وبمَ اختصّ في تعليمه الجامعيّ، وكيف يقضي حياته في البحث عن لقمة العيش.

تقول لنفسك، هل يا تُرى لو علم الكاتب أنّ نَصَّه سيكون عِبئاً على الطلاب لكان أقلع عن الكتابة؟ أم إنّه لن يستطيع تذكّر لحظاته العصيبة في المدرسة، وبالتالي لن يأبَه بمصير أمثالك؟!

ينتقل الأستاذ -ومن غيره؟- بخِفّةٍ إلى معاني الكلمات: ينبغي على الواحدِ أن يعرف معنى "الخلود" وال"تَعَثُّر" وال"سُموّ" وال"النبضات"، حتى إذا احتاج يوماً أن "يدلِفَ" إلى مكانٍ ما يُسعِفُه قاموسه فلا يحتاج أن "يتلعثم" ولا "يضطرب" ولا إن أنهى كلامه أن يُخطئ في ال"تنهّد".

بعد الحواشي، يجيء الأستاذ إلى النّصّ، فيُمسكه بكلتا يديه، ولو يقدر لجزّ عليه بنواجذه. يُقلّب نظره على فواصِلِه ونِقاطِه، ويُتابِع بدِقّةٍ أواخر الكلمات، ما اتَّفق منها في الأحرف والحركات، وما تضادّ منها في المعاني وما تَرادَف، وما تناسب منها في الوصف أو السّرد أو الدلالة. ثمّ يجعل أعلاه أسفَلَه، وآخِرهُ أوّلَه، مُبيّناً حِرَفيّة الكاتب في رصْف الكلمات، وإتقانه لمفاتيحها حِرفَةً أو هوايةً، مهما قال الكاتبُ وصالَ وجال. يُبحِر بعيداً في حبّ الكاتِبِ للوطن حتى لَتَحسبَنّه قاضياً حياتَه في ظلّ البندقيّة، ويُغدِقُ الثَّناءَ على أصالَتِه حتى لَتَظنّه ركِب في كتابته هذه صهوَة جوادٍ، ويَجودُ ويستفيضُ في مديح شاعريّته وحِسِّه المُرهف حتى لَتشْعُرَنَّ به وتَرَ عودٍ يكادُ من لمسَةٍ أن ينقطع.

ثمُّ يكبُر في عينِكَ الكُتَّاب.
ينمو غرسُ والديك بِنُموّك. تُحِسُّ بعقلك يكبر ويتضاعف حجمه يوماً بعد يوم. تؤمن أنّ كلّ ما تقولُه حقٌّ، وأنّ كلّ ما تكفُر به باطل. تُصدّق أنَّ لأنامِلِك قدرةً خلّاقَة لا تقِلُّ بشيءٍ عن سكّان كتاب اللغة العربية ذاك، وتزداد يقيناً مع كلّ حِوارٍ وكلّ نِقاشٍ أنّ فيك ذاك الكاتِبَ المُقدَّسَ الذي لا يهفو ولا يُخطئ. تُمسِك القَلَم وتقرّر البداية.

تتذكّر فجأةً أنّ الزمن تغيّر، وأنّ القلم لم يعُد الوسيلة. تفتحُ حساباً لكَ على الفيسبوك كما لو تفتَحُ ساحَ الوغى. ترمي بِدُرَرِكَ صباحَ مساءٍ مع لَقْطةٍ غنِيّةٍ بالكافيين تارةً، وفي أخرى تُرفِقُها بصورةٍ لِوَردَةٍ استحصلتَ عليها من خلال مُحرِّك البحث السَّخِيّ. في أعلى صفحةِ الحِساب صورةٌ لكَ وأنت تُمسِكُ بالقلم في لحظة تذكاريّة فاخرة، لا يطَالها قلمُ طالبٍ في سَنَتِهِ الدراسية الإعداديّة الخامسة كي يزيدَ لها شَعْراً، ولا شاربَين. كلِماتُكَ تَعبُقُ بالرّكاكَة، لكن لا يهمّ، فَكُلُّ من يتطاول على حضرة "الكاتِب" تَحظُرُه بخطوةٍ أو اثنتين من أنامِلك على إعدادات الحِساب. أنتَ لا تنسى أن تكتُبُ العُنوانَ، نِكايةً بالأستاذ، قبلَ كلِّ شروعٍ في جلسةٍ من جلساتك الشّاعريّة. وبِمَحَبَّتِكَ تُعفي المُعجَبين من إجهاد أنفسهم في فهم الحواشي وإيجاد التفسيرات والتبريرات.. تُجيبُ مرّةً من كلِّ عشْرَةٍ على أسئلتهم مُستَبقياً ثِقَلَك الأدبيّ، ومُرضِياً فضولهم الذوّاق، ومعَزّزاً مَكانتك في العالَم الإفتراضيّ. 

تَضَعُ رأسكَ غالباً عندَ مشارفِ السّتِّين، و"حالَتُكَ" الأخيرة المُفعَمَةُ بالحياة على حِسابِك لا تَشِي بِرَحِيلَك لِأَحد. عِندما تُطِلُّ لاحقاً من مثواكَ الأخير، تساَلُ نفسَك: هل كنتُ ممَن تركوا بسمَةً على الوجوه، أم سبباً في تفشّي الغباء؟

حنان فرحات | 2017