Dec 20, 2021

اللوحة الأجمل


قررتُ ببراءة الأطفال أنني أريد أن أسير يوماً تحت الشتاء. أنا التي اعتادت صقيع البقاع وشتاءه، لم أظن أن شتاء مدينة ما سيكون شلالاً بالمقارنة مع شتاء القرية الأقرب إلى دموع بَكَّاء. وعندما اضطررت أول مرة للوقوف تحت شتاء بيروت بانتظار سيارة الأجرة بعد أن رفضتُ تكراراً عرض أمي صباحاً أن آخد وشاحاً إضافياً أو مظلة، تبللت حتى لم أعد صالحة لأن تُقلني أي سيارة! ضحكت في قرارة نفسي من كثرة الحزن. ما أجمل المطر من خلف الزجاج!

**

تكنس أمي يومياً أوراق الخريف، يلومها خالي على تخريب اللوحة الجمالية الطبيعية.

في أميركا، أتأمل التلال الشاسعة تغمرها أوراق الأشجار الملونة في لوحة خلابة لا يضاهيها رسم أي فنان. 

على شرفة منزلنا السابق، تهبط أوراق العرائش والأشجار كأنها أكياس تُملأُ وتُفرَغُ قصداً. أفكر في تركها لوحة خلابة، ثم أتذكر البلاط الذي سيفسد، والحشرات التي ستحب قضاء بعض الوقت تحت لحافها الوثير، فأمسك المكنسة آسفة وأحدث نفسي: ما أجملَها من بعيد!

**

بعض طلاب المدارس والجامعات، وآسف لقول ذلك، يعتمدون الغش وسيلة أولى للنجاح، وقد يبتغونها للتميز أيضاً. ينسون تماماً أنّ النجاح بالغش يمنع عنهم المنفعة المقصودة بعملية التعلّم، وهو حل مؤقت قد يشكل عقبات أمامهم في سوق العمل. أما في فئة طلاب الدراسات العليا، فيقل هذا الاحتمال، وأعزو ذلك لكون خيار استكمال الدراسة ما بعد الجامعية يكون نابعاً عن قرار شخصي لا عن قرار يجتمع فيه الضغط النفسي ورغبة الأهل وتوقعات المجتمع. أحياناً يلزم الاقتراب من الذات للتحقق من الرغبة!

**

قد نكون خلف نافذة نشاهد المطر فنتمنى لو أننا تحته، ولو أننا تحته لتمنينا نافدة تقينا إياه.

وقد تكون اللوحة أجمل من بعيد، مليئة بالعيوب لو اقتربنا أكثر من اللزوم.

وقد نبتعد عن ذاتنا كما لو أنها اللوحة الأجمل من بعيد، فيما نحتاج أن نقترب لنرمم الكسور ونغلق الثقوب. 

**

قد يكون القريب صحيحاً، وقد يكون البعيد أسلَم؛ العبرة بموقعك من الأمور.

 

حنان فرحات | بيروت

20-12-2021

Dec 8, 2021

كل ما لم يبقَ


خاصمت والديّ بيني وبين نفسي عدة مرات.

مرة حين باعوا السيارة الزرقاء الصغيرة. بالرغم من أن الدهر كان قد أكل عليها، وأنا وأخي أشبعناها تمزيقاً وتوسيخاً كحال كل الأطفال، إلا أنني خفت على الذكريات. كيف سيوضع الكرسي الأزرق ذو اللون ذاته في سيارة أخرى. كيف سيكون المشوار بنفس النكهة؟ وهل ستبقى أعمدة الإنارة بذات العدد لو تغيرت النافذة التي أنظر منها؟

في المرة الثانية، كنت قد نسيت السيارة ونسيت لمَ كنتُ مصرّة على استبقائها. لم تكن جميلة أصلاً! استبدلا المدفأة الأسطوانية التي تتمركز وسط المطبخ بأخرى غريبة الشكل. بت الليلة وأنا أفكر كيف لسندويشة اللبنة أن تتسخن بالجودة نفسها، هل ستكون بذات النكهة؟ هل يعقل أن اللذة تكمن في شيء غير حرق الأصابع فيما أمسكها بكلتا يدي وألصقها على حديد المدفأة الجانبي طولياً، ثم يرجوني أخي أن أسخن سندويشته فأوافق بشرط أن يطوي لي عدة مناديل قبل أن يصل باص المدرسة؟ 

لكن الحزن لمغادرة المدفأة ما لبث أن اضمحل حين صار فرن المدفأة الجديدة سيد الموقف. تدخل السندويشة معززة مكرمة، تتمدد هناك فيما تلسعها الحرارة من كل الجهات، لا أصابع تحرق، ولا انتظار يذكر، وكلٌّ يطوي مناديله! رغم تبدل هيئة المدفأة من أسطوانة طولية إلى شبه مكعب ذا فرن، بقي بإمكاننا الالتصاق بها والتمدد حولها في أيام البرد. ولا أعزّ من صوت والدتي توبخنا على الجوارب المحروقة، إلا صوت والدي الذي يوبخنا لحشر أقدامنا تحت المدفأة لأسباب صحية.

لم يطل الأمر كثيراً. ربما عشر سنوات؟ حسناً، طال الأمر. لكن دوام الحال من المحال. كبر أفراد المنزل، وازداد الاكتظاظ حول المدفأة. فاقترح أحد ما مدفأة جديدة، تجلس في الزاوية كضيف، وتنفث الهواء بمساعدة مروحة كهربائية، وتعطي المفعول ذاته. بل إنها أفضل! رفضت. لا أدري إن أعلنت رأيي أو تعاملت مع الأمر كما لو أنه فرض واجب، واكتفيت بالاستنكار في الخفاء، لكن الإجابات جاءت قبل الأسئلة: "له فرن". قلت لا بأس، فدلال سندويشة اللبنة محفوظ، والهدف من التغيير التوسعة، وكلاهما للخير العام. لكن الحق يقال، كان الفرن أبعد عن النار، فالمدفأة المكعبة طولياً تتربع ك"الشيمينه"، كما لو أنها لا تألف إلا الجبن الفرنسي، أو التوست الأميركي. المهم أنها لا تفهم معنى اللبنة، ولا تتسع لصواني الكعك العديدة، ولا لقالبَي كاتو سوياً.   

ما علينا، انتهى شتاء وجاء غيره، وانتقلنا لمّا ازددنا أصهرة وأحجاماً من المطبخ إلى غرفة الجلوس، ولم يعد حتى الفرن الصغير الذي لا يملأ العين في متناول اليد. وفي زاوية الغرفة التي لطالما عهدناها للضيوف، تمركزت مدفأة لا تشبه الماضي ولا الذكريات. كما لو أن عدم وجود فرن فيها لا يكفي، بل إن حديدها حتى لا يصلح إلا للمنظر. بكبسة زر تنفث الهواء الدافئ في الغرفة فأكاد أختنق. وفي كل مرة أسأل نفسي، هل يخرجني ارتفاع الحرارة أو اكتظاظ الصور قي مخيلتي...

---

 بعد سنتين ونصف، ها أنا في منزلي الجديد، أنعي عدم الحاجة إلى مدفأة. "تكفي مدفأة كهربائية صغيرة وسترة سميكة. أو يمكن للAC  أن يعدل حرارة الغرفة فتنسين أن الفصل شتاء". لا يا أعزاء. لا يمكن أن أنسى. صباح مساء، سألفّ سندويشة اللبنة القروية وسط المدينة، وسأسطحها على المقلاة لتتسخن. قد أتناساها قليلاً حتى تكاد تحترق، أو أثبتها بأصابعي كي تكتسب نكهة المدفأة القديمة. والمرة تلو المرة، سأتنهد مبتلعة غصة المدفأة الأولى، والسيارة الأولى، وكل ما لم يبقَ كما كان.


حنان فرحات 

بيروت ديسمبر٢٠٢١

Nov 15, 2021

في مديح الجمال

يمكن للجمال أن يكون أخضر العينين، أشقر الغرّة، واسع الجبين، ذا غمّازتين يهتف لهما القلب. أو ناعم الشعر كالفرس، أبيض السحنة كالثلج، بنّي القزحيّة كجذع شجرة معمّرة. يمكنه أن يكون ممتلئاً كغيمة ماطرة، أو ضئيلاً كنسمة في ربيع، أسمرَ كالقهوة، أو أحمرَ كالشّاي. قد يتكلم العربية ببراعة النحويين، أو أجنبياً كمدرّس في هارفرد، أو شرق آسيويٍ لا تفهم معانيه لكن تلفتك منحدرات منطوقه.

وبالرغم من أثوابه العديدة، لطالما استفزّني حبس الجمال في ملامح أو تأطيره في تعريفات مجرّدة، فهو توحّد ألوان مرة، واختلاطها مرات أخرى، هو فصول عديدة، ومناخات أكثر، ونساء ورجالات، صغار وعجائز، بيوت وزوايا وصور وذكريات ولحظات انبثاق وانصهار وانسياقٍ.. 

أحزن حين يُصار إلى مديح الأشخاص بحُسنِ ملامحهم، أو حتى الإثناء على أيّ من خصالهم ما لم يكن لهم جهد مبذول في سبيل تحقيقها. فالمدح والحمد والشكر هنا للخالق، لا المخلوق الذي لا فضل له ولا منّة في نحت آيات الجمال.

ولو أمعنّا النظر في المسألة لوجدنا أن حبّنا لبعض الأشخاص لم يكن لينقص أو يزيد لو أن أشكالهم تبدّلت، أو ملامحهم شاخت. بل بالعكس تماماً، كنّا سنحبهم أكثر كلّما تعتّقت وجناتهم وغارت عيونهم وتجعدت أكفّهم (قد يفسّر هذا الأمر حبّنا للجدّات حبّاً لا متناهياً).

أما في الحالات المعاكسة، حيث نهتم لأمر شخص ما بسبب انجذاب فيزيولوجي بحت، فإن ذلك الإعجاب يضمحل عند أوّل تضارب مصالحٍ أو سوء معاملة، وتصبح "فلقة القمر" بدراً آفلاً، لا يهم حضوره مرّة في الشهر طالما أنه يغيب كل النهار ومعظم الليال. أمّا إن رافقه حسن المعشر وجميل المنطق فتلك ركيزةٌ متينة لعمارة العمر.

بذرة الجمال تستقرّ في إناء قرب القلب تماماً، تزرعها صلة قربى أو موقف غير عابرٍ أو إعجاب بملامح في مرّات قليلة، لكنّها لا تنبت إلا بالعِشرة والصّبر وبذل الحب. قد تورق بابتسامة، لكن ابتسامة لا تكفي لمواجهة الشتاء. بل إن كأس شاي دافئ في ليلة ماطرة قد يجعل زهرها يتفتح متعارضاً مع قوانين الطبيعة. 

لذا فإنك ستكون أجمل في نظري –وقد لا يهمك ذلك أصلاً-، حين تمدح محبوبك بالخصال التي يجهد في تنميتها والحفاظ عليها؛ في بشاشته، تفانيه، صدقه، سعيه الدؤوب لتحقيق أهدافه، دعمه لك، إيمانه بنفسه وبك، وغير ذلك مما يستكشف المحب ويألف.

ليكن مديح الجمال مديحاً للجمال المكتسب بالطرق المشروعة، لأنه يزيده وينميه، لا للملامح التي تختلف باختلاف الناظر إليها، وتتغير بفعل الزمن وحوادثه، وتنهار عند أول منعطف، وتزداد كِبراً بالغزل فيكون له تبراً.

حنان فرحات ¦ ت١، ٢٠٢١
بيروت

مطبخ الحب

أحبّ الصبحيات. أحاديث الجارات وحوارات الكبار. أستمع بشغف كمن يلتقط أسرار حرب إلى حديث حول صينية المتة، يشوبه في بعض المرات صوت فرم باقة البقدونس، ولو أنّ الحديث لا يتجاوز في غالب الأحيان روتين الأعمال المنزلية اليومية والموسمية، و"طبخة اليوم". ولكثرة حبّي لهذه الجلسات، اعتدت أن أدرس فيها، وأن أستيقظ باكراً لأجلها حتى صرت لا أعرف مستقرّاً لي في أي غرفة لو زارنا أحد، إلا الغرفة التي يحلّ فيها الزائر. أما عن الزائرين فهم عدة أنواع؛ الأقرباء والأصدقاء المقربون، الزملاء في الدراسة أو العمل، والزائر الخاص بفردٍ من أفراد العائلة. ويكون غالبية الزوار في القرية من النوع الأول، كما قد ينتقل أي شخص من الفئتين الأخريين إلى الأولى بسهولة، وبالتالي لا ضير من استقبالهم في المطبخ. في مطبخ المنزل كنبات تسهّل استقبال أمي لجاراتها أو قريباتها بينما تطبخ أو تغسل الأواني بعد أن تعود من العمل أو في عطلة نهاية الأسبوع، وتلفاز تشغله صباحاً لسماع القرآن الكريم، وخلال النهار لسماع نشرة الأخبار. وكذا في مطابخ ربات البيوت في القرية؛ شيئاً فشيئاً، تصبح أوسع من غرف الجلوس، توقد فيها النار شتاء، وتفرش فيها الموائد صيفاً. يتفنن النجّارون في جعل المطبخ "عملياً"، ويصبح له بعد عدة سنوات شرفة أو مخرج إلى "سطيحة"، تحيط بها شتلات الورد وتظللها شجرة ما أو تُنصب لها خيمة قش أو قرميد في أحسن الأحوال. تلتم العائلة فيه كما لو أنّه الغرفة الوحيدة في المنزل، وتتكاثر على "مجلاه" الأواني والأطباق منذ الصباح الباكر، ثم تقلّ وتكثر حتى حلول الليل. وعندما تكبر العائلة، يزداد ذهاب وإياب الأواني؛ تمتلئ وتفرغ، تتسخ وتنظف. بعد عدة سنوات، يكبر الأطفال. تصبح لهم مواعيدهم وعزوماتهم الخاصة، ومن ثمّ مناساباتهم وأصدقاؤهم وعائلاتهم، فتتغير حركة الأطباق والحلل حسب أيام الأسبوع. تكبر "الطبخة" لعل زائراً أو صديقاً يحضر في وقت الغداء، وتؤكل أحياناً بشهية على الغداء والعشاء ثم فطور اليوم التالي لو كانت بلذة الملوخية أو "الكشك بالبطاطا". يقلّ المتحلّقون حول مائدة المطبخ أحياناً، ويكثرون أحياناً أخرى. يأكلون من موائد أخرى أطباقاً لذيذة أحياناً، وعادية أحياناً أخرى، لكنّ الأكيد ألّا طبق يمتلئ بنكهة الحب ذاتها، ولا طعام يؤكل بالدفء ذاته. يفتقدون تفاصيل كانحناءة الملعقة، ونقوش الطبق، وألوان الأواني، ورفاهية معرفتهم لمكان كل شيء في أي خزانة تقع أيديهم عليها كما لو أن كل شيء ملك لهم. يفتقدون معرفتهم الدقيقة بذوق كل شخص حول المائدة، والنكات التي تغيظه، وأقلّ وأكثر ما يعمر قلبه بالسعادة. في معجم القرية، من لا تدخل مطبخه، لست من أعزّ الناس عليه. 

مطابخ المدينة للطهي، ومطابخ القرية للطهي والحب. سأكتشف ذلك لاحقاً. 

من روايتي المقبلة

Sep 9, 2021

إناء جديد

 

"إنّها تصفرّ..!"، قلتُ لجدتي في عجالةٍ إذ سمعت صوتها بينما أكلّم أمّي عبر الهاتف. "قولي لها إن الشتلة تصفرّ".

كان الأمر مضحكاً بالنسبة لي، أو بالأحرى "إشارة" أنّ عليّ الكفّ عن الحلم قليلاً بفلاحة أرض الشقة التي نسكن في بيروت، وزراعتها بيدراً من الجرجير سريع النموّ، أو الريحان العبق الرائحة، أو الفجل الذي يبحث الراحة في نفس من يحصده. بدأ الأمر، أو انتهى فعلياً، حين أخبرتني جدتي بحماسٍ أنّها جهّزت لي شيئاً مميزاً. قالت لي إنها تعرف أن السائد إهداء شتلات الورد، ولكنّها تطمح إلى شيء أكثر فائدة بالنظر إلى "ظروفي المعيشية". قالت والابتسامة تعلو وجهها البديع، "أعددتها وسقيتها على مدار عدة أيام، آنيةٌ فيها من تراب "حاكورتي" وبصيلاتٌ خضراء تقصفين منها كلّما أعددت صحن سلطة! ما رأيك؟ أليست أفضل من الورد؟!".. وإذ تكبر ابتسامتها، كبرت ابتسامتي أيضاً، فهي حين وصفت الإناء واهتمامها به قلتُ لنفسي مسرورة أنْ ها هي شتلة الريحان قد تأمّنت من دون عناء، ثم انقلبت ابتسامتي ضحكةً على توقعاتي عند خيبة الأمل. لم أخبر جدتي وقتها –لكنني فعلتُ لاحقاً- أنّني عادةً أستبعد البصل الأخضر من كل وصفات الطعام، ولو أن حديقتي المأمولة وجدت طريقها إلى الحياة، فإنها بالتأكيد لم تكن لتحتوي عليه.

ما علينا.. أحضرت إناء البصل إلى البيت، وانتقيت له زاوية مشمسة، وسقيته باستمرار.. وربما كان لخوفي من اتصال مباغت بالصوت والصورة أثر عكسي، فرحت أسقي البصيلات كلما مررت من جانبها حتى اصفرّت وبدا عليها التعب.  لا بد أنه الخريف، أو أنها عرفت أنها غير مرحب بها فلم تستطب المقام في ضيافتي-فأنا أؤمن بالودّ المتبادل بين النبات والمعتني به-. على ذكر الخريف، منذ عدة أيام انتبهت إلى أن حلمي الأخضر صار غير صالح للتنفيذ ما يعني تأجيله إلى السنة القادمة. إلى ذلك الحين، أكتفي بصبارات صغيراتٍ من زوجي وابنة خالي، صبارات حذقاتٍ لا يطلبن الكثير من الماء ويكبرن ببطء شديد فلا خوف منهنّ ولا عليهنّ.

 

بيروت 9 أيلول 2021

Aug 15, 2021

أيها ‏الموت ‏اللطيف

احزر، يا رعاك الله،
كيف الموت في لبنان؟

إنه ضربُ وجاهه..
إنه تغيير جو،
بين تفصيلٍ وآخر..
إنه درب المتاهة..
هل أموت اليوم في طابور خبزٍ؟
أو تضلّ رصاصة تاريخها..
أو تمزقني،
أنا،
قنينةٌ مضغوطةٌ أكثر مني..

هل أموت في سفينه؟
أو هل أموتُ،
وراء واجهةٍ زجاجيهْ متينه!
هل تجيء السكتةُ وسْط الطريقْ؟
هل تكون السكرةُ تحت الركامْ؟
أم ربما في جلسةٍ،
أو في حريقْ!
مرفأٌ؟
قارورةٌ؟
صهريج غازْ؟
أو منجنيق! 

أيها الموت تفهّمْ،
إنك لست هوايه.. 
ربما ضيفٌ ثقيل،
بين أكوام الضحايا..
جِد لك طيارةً،
تحملك باسم السفاره،
 هم يلمّون الرعايا.. 

لستُ أدري،
أيها الموت اللطيف..
كيف أصبحتَ نقاهة.
يظهر الأمر كنكته.. 
مزحةٌ سمجه،
فكاهة.

كيف صار الصامدونَ،
مجرجرين إلى الودَاعة؟
كيف صار الجرحُ؟ عادة؟
كيف صار الضوء،
أيها الساده، رفاهاً؟
كيف صار الخبز جاهاً؟
استحال الداءُ صبراً؟
استحال المرء تبراً..
ثم قام القائلون: 
ثورة الناس دعاية..
غيَّروا مشروعهم في لحظة،
صار بيع الموت غاية!

#عكار ٢٠٢١

Apr 1, 2021

دكان وحب

هذا الدكان الذي يبدو مهجوراً، كانت تصطف أكياس الخبز الطازج على وشاحه الأحمر والأزرق، وتحتها بدرجة أطايب السكاكر، وعن يمينها مفرقعات العيد.

خلف الواجهة الزجاجية مطحنة البنّ التي تكفل رائحة الدكان الزكية، وفي الرفوف الداخلية كل ما تحتاج السيدة لبيتها والفتاة لزينتها والسائل لطلبه.

وأما ما يخفى على رائي الصورة فكنبة كأنها السرير الوثير، ومدفأة كأنها شمس الصيف، وثلاجة فيها البوظة الممنوعة علينا في غير وقتها المشروع، وسجادة صلاة مرتّبةٌ بين الباب والمدفأة، يعلم الداخل أنها ممدودة إذا رأى الباب غير مفتوح على مصراعيه.

وفي الدكان كان ما لا يُحصى ولا يُعدّ من أسباب الحب والاطمئنان. فسيدة الدكان، جدّتنا. وهي التي لا تُقدّرُ مكانتها بميزان، ولا يقاس الشوق إليها بقبّان.

*الصورة من عام ٢٠١٣ إثر إخلاء الدكان بعد وفاة جدتي أم جمال مغدورة.

اللهم ارحمها واغفر لها واجعل قبرها روضة من رياض الجنة واجمعنا بها في جنتك🙏

Feb 21, 2021

في ‏الحي ‏الجديد


لم يتغير كل شيء فجأة. ينسحب كل تفصيل على حدة، كأن بساط العادات يتحرك مع تيار الحياة.
لم أعد أستيقظ باكراً. لو علم جدي بالأمر لأزعجه كثيراً. لا يفهم كيف يمكن لشخص أن يفوت ساعات كاملة من النهار في "لا شيء". أعزّي نفسي بأن السبب جهد أمس. أو هي المعدة الممتلئة، أو الصباح البارد.
لفافة الفطور لم تعد تتدلل في غنج "اللبنة". صارت تتفرق بين الموجود والمطلوب وما ترغب العين وما تشتهي النفس. كأس الماء لم يعد من صنبور المنزل، لم يعد من عين الضيعة، لم يعد مجانياً. صار الماء النظيف يصل إلى باب المنزل بدل صنبوره؛ ويعبأ في قناني البلاستيك بدل الخزانات الكبيرة.
شمس النهار أصبحت زائراً خجولاً يتسرب بين البنايات، وعوضاً عن ساحة المنزل صار "موقف سيارة" واحدٌ. جيران الصباحيات وسلاماتهم اختُصرت بترحيب الناطور، وبائع الخضار عند زاوية الشارع صار مقصداً ممنوعاً. يطلب منك بحذر أن تبتعد قليلاً بينما تطلب حاجياتك كي لا تلتقطك عدسة كاميرا ما في الجرم المشهود فتكلفه غرامة كبيرة بسبب الحظر المفروض في زمن كورونا.
أطفال يعملون في توصيل الحاجيات من الدكاكين المتوزعة في الحي بدل الدروس الصباحية، وتلويحة للثلج من بعيد، يتساقط على الرفيد - قريتي الحبيبة- فيما ينزل المطر سخياً في الحي الجديد.
كان كل تفصيل ينسحب من المشهد على حدة. لم يتغير كل شيء فجأة. لم يتغير أي شيء فجأة.

#في_الحي_الجديد
#حنان_فرحات | ٢٠٢١

Jan 25, 2021

مشوار إلى الدكان تحت القصف

تَحضرني قصة طريفة بينما أغسل حبيبات الأرز التي اشتريتها والتي - بالمناسبة- لم أعرف حتى الآن لأي نوع تنتمي، فهي طويلة على أن تكون للأرز المفلفل، وقصيرة على فئة الأرز الطويل، وسمينة نسبة إلى أرز البسمتي، وتتسع عيناي ويضيق صدري إن ما سألني أحدهم في محاولة لتبديد حيرتي: مصري أو أميركي؟

أيام حرب تموز، أصريت على أمي أن أسير إلى السوبرماركت لإحضار أي شيء كان،
"ما بدك خبز؟؟"، استنجدت بالسؤال اليومي علّني أحظى بموافقة تغيّر شكل يومي الصيفي القَلق، فلما رأت أمي ما بي من إصرار، أشفقت علي.
تبعد السوبرماركت حوالي ال٥ دقائق مشياً على الأقدام، لكن تلك المسافة تصبح بعيدة جداً في حال لاحت طائرة حربية في السماء، أو حتى ورَد إلى آذاننا صوت قصف أو افتتاحية له.

فكرت أمي جيداً في شيء قد تحتاج إليه ولا يثقل أذرعي ذات ال١٣ عاماً، ثم كما توقعتم جميعاً، طلبت كيلو أرز. أعادت علي وصفه واسمه مرات عديدة، وهززت رأسي مرات أكثر. وكأنما في كل إعادة تُمحى الجملة التي سبقت.
ذهبتُ مشواري بسرعة كي لا أخرق قانون الحرب، الطريق الاسفلتي، ثم الترابي، تليه قفزة عن الحائط. أمسح قدمي من التراب، أدخل إلى المحل،يميناً حيث رفوف الحبوب، ويا للهول. ماذا كان نوع الأرز؟؟
مشيت بخجل ناحية عمو البائع، أنفّذ خطة الطوارئ بإتقان.
-ألو امي.. 
-شو في؟؟
-قلتيلي دقيلي اذا صار شي. نسيت شو نوع الرز..
-...

حنان فرحات ¦ ٢٠٢١

*ولا، ما رجعت عيطت عليي نهارها😃

Jan 1, 2021

لبنان ٢٠٢٠

من كان يظنّ أن عاماً سيقلب الموازين؟ في نقطةٍ ما، بعيدة عن كل ما تعرفه، وكل من تعرفه، يلقي أحدهم بكلمات على مسمعك فتظل تسمع صداها مدى العمر.

دخلنا المصعد وأيدينا متشابكة تستعد للفراق، حين انضمّ إلينا شابٌّ يحمل في يده باقة ورود. منذ شهر فقط، كان زوجي حاملاً الزهور لاستقبالي، والآن يُودّعني، فيما يُضربُ لغيرنا موعد مع اللقاء. ابتسمتُ في سرّي للمصادفة اللطيفة ثمّ انصرفنا إلى وداعنا على عتبة مطار كولمبوس الدولي، مطار عاصمة ولاية أوهايو الأميركية.

ولأنّنا غالباً خائفان من التأخّر، وصلتُ باكراً، بل أوّلاً، إلى قاعة الانتظار. وبينما أنا جالسة أفكر، وإذ بزوجين أميركيين كبيرين في السنّ يتقدّمان نحو القاعة ثمّ يجلسان قبالتي تماماً. عجوز وزوجته، غربيّا السّحنة، كما لو أنّهما خارجان من فيلم أميركي (وهذا أقرب وصفٍ ممكن بالنسبة لعربي!)، يبتسمان لبعضهما بين الفينة والأخرى فيما يجريان التوصيلات اللازمة لشحن أجهزتهما الخلوية.

 كنتُ متوجّسة من نظراتهما إذ يبدو أن حجابي غريبٌ بالنسبة إليهما، إلا أن قررا تبادل أطراف الحديث معي كوننا الوحيدين في انتظار الطائرة حتى ذلك الحين. كانا عفويين إلى حد كبير، حيث استرجعا لي قصصاً من طفولتهما، ثم أخبراني أنّ كلّاً منهما تزوج مرةً أولى، وانفصل عن شريكه، ثمّ تزوج كل منهما ثانية، وتوفي عنهما شريكاهما، ثم شاءت الأقدار أن يجتمعا فيتعارفا ثم يتزوجا.

كان زواجهما قد أتمّ قرابة العشرين سنة حتى ذلك الحديث، وكانا متوجّهين لزيارة ابنها في بلاد بعيدة، حيث "يجلس سائقو السيارات في الجهة اليمنى"، والطقس ربيعي جميلٌ، ومدير ابنها يجد أنّ "والدة أيٍّ كان تستحق أن ترى ابنها وإن كانت تسكن خارج البلاد"، لذا فقد ابتاع لها تذكرة سفر ليؤمّن حصول ذلك.

سألتني: " هل من يقود السيارة في بلادكم يكون يميناً أو يساراً؟". ضحكت، ففي بلادي يفترض أن يقود السائقون سياراتهم في الجهة اليمنى من الطريق، إلا أنه يمكنك أن تجدهم دون استغراب يساراً، فأوضَحت: "أقصد هل يجلسون في السيارة جهة اليمين أو اليسار؟". إبّان تلك المحادثة، كانت السيارات لا تزال تسير وفقَ العادة. لم يكن أحد يتوقع أن حظر تجوال سيُفرض لسبب آخر غير الحرب، ولا أنّ زحمة السير ستتقلص لشهور، ولا حتى أنّ الطلب على الفيتامينات في الصيدليات سيصبح في منافسة مع الطلب على الخبز.

قبل أن يزيد منتظرو الطائرة، ويتشتت انتباه العجوزين وحديثهما، وبعد أن استفسرا عن البلاد التي آتي منها، والتقاليد والثقافة وكل ما قد يكون جديداً عليهما، وجّها لي نصيحة ظلت ترنّ في رأسي طوال طريق العودة: 

"إذا فتحتِ عينيك صباحاً، ووجدتيه بجانبك، واستيقظ هو الآخر، فتلك نعمة لا تُقدّر بثمن".

والواقع أنّ هذه الجملة، كلّفت هذين الزوجين عمراً وخسارات حتى ينطقاها بهذه الثقة والإصرار، إلا أنّها على بساطتها كانت درساً مهماً من دروس الفيروس الذي اجتاح الكوكب كما لو أنّه مخلوق فضائي لا يُعرف له مسارٌ ولا عمرٌ ولا مَقتل. كان ذلك في شباط 2020، وكانت الطائرة ستحطّ في سويسرا قبل أن أستقلّ أخرى بعد سويعاتٍ إلى بيروت. يومها، كانت الإصابات الأولى قد تأكدت في سويسرا وفي لبنان، وكانت الكمامة ضيفاً خجولاً في المطارات.

في محفظتي كنتُ أحتفظ بعدة كمامات حصلنا عليها –زوجي وأنا- بعد بحثٍ مضنٍ في عدة صيدليات ومراكز تسوق. كما كان لا بد من علبتين أو ثلاثة من المعقمات وأخرى لتعقيم الأسطح. لكنني في الواقع لم أستخدمها حتى وصلت إلى سويسرا. ولأن لا متّسع في حقيبتي للمعطف، ارتديته رغم عدم الحاجة إليه، وبذا ارتفعت حرارتي، وأصبحتُ صيداً لميزان الحرارة الذي يًفترض به أن يكشف إصابة المسافرين بالفايروس عند كل نقطة تفتيش.

أصدر ميزان الحرارة طنينه كلّما مررت، ولا أنا فهمتُ ماذا به، ولا المسؤول عنه أوقفني. كان العالم على نشرات الأخبار يتنبأ بكارثة، بينما واقع المطارات –التي مررتُ بها على الأقل- لا يكاد يختلف عن عادته، ولا تكاد تجد للفايروس أثراً فيما عدا حديث سيدات لبنانيات يتناقشن في قاعة الانتظار عمّا إذا كان الفايروس يصيب الأطفال أم لا، هذا إذا تغاضينا عن أن أطفالهن كانوا يلعبون على الأرض ويتسابقون بين سيقان المسافرين.

كانت عودتي إلى بيروت بغرض استكمالي العام الدراسي في التعليم والتعلم، ولم يكد ينتهي الأسبوع الأول بعد وصولي إلى لبنان حتى أُغلق البلد وعُلّقت النشاطات الحضورية وانتقلت كل الدروس إلى العالم الافتراضي، وصارت عودتي دونما أي جدوى. مع مرور الأيام، كانت أعداد المصابين تزداد كما تكبر كرة الثلج حين تتدحرج من أعلى التلة، وكان السباقُ للتأقلم وتقبّل الواقع وضمان استمرارية الحياة بأشبه ما يكون من الطبيعية. وبين هذا وذاك، كانت نصيحة الزوجين الأميركيين تزداد واقعيةً وشمولية.

"إذا فتحتِ عينيك صباحاً، ووجدت عائلتك بجانبك، واستيقظوا هم أيضاً، فتلك نعمة لا تُقدّر بثمن".

بالرغم من كل الصعوبات التي واجهها اللبنانيون إثر انهيار العملة الوطنية وما تبعها من تداعيات الإغلاق القسري، إلا أن أجواء العائلة أخذت حقّها بعد أن كانت المشاغل تأكل منها وتُسرِف. على الصعيد الشخصي، بدأتُ روتيناً صحياً واستمتعت بتجربة زراعيةٍ على مدى عدة أشهر، وكذلك كان أصدقاء كُثُر يستفيدون من وقتهم ويعززون مهارات لم تكن بالحسبان حسبما لاحظت من وسائل التواصل الاجتماعي.

كانت قرارات الدولة بما يخص التعليم الرسمي غير قابلة للتوقع، مما أدّى إلى اضطراب وقلق دائمين لدي الطلاب والأهالي والكوادر التعليمية. وحين بانت الأمور وتجلّت القرارات، هدأت النفوس بطلوع شمس الصيف وازدياد القدرة على الخروج والتفسّح في الهواء الطلق، ولو أن الكمامة والمعقم سيكونان الرفيقين الدائمين في المشاوير والرحلات

لم يكد شهر آب يدق الباب، حتى انفجرت سنوات من الفساد والإهمال في ناس بيروت ومبانيها، ارتدّت موجات الانفجار حتى وصلت قلوب كل اللبنانيين في أصقاع الدنيا. فقد البعض منازلهم، لكنّ الأكثر خسارة كان من فقد قلباً كان يمثّل الحياة له. أصبح في ذاكرة كلّ شخص صورة عن خسارة، إن لم نقل جرحاً نازفاً.

انقضت الأشهر الأخيرة من عام 2020، وكل مشاريعي للإنتاجية والإيجابية على حافة الانهيار. الأمل بانتهاء كابوس الفايروس بدأ يتلاشى، والانصياع المؤقت للواقع الافتراضي أصبح فرضاً بعد أن كان خياراً. بدأ الاختبار الحقيقي: كم سنصمد بعد؟ ولماذا أراني أعيد كتابة خطة عام 2020 للعام الذي يليه دونما فارق كبير؟

تعود إليّ كلمات الزوجين الأميركيين بتعديل بسيط:

"إذا فتحتِ عينيك صباحاً، ووجدت عائلتك وأحباءك بجانبك، واستيقظوا هم أيضاً، فتلك نعمة لا تُقدّر بثمن".

إذن، هذا العام، كان نجاحاً أن نستيقظ كل يوم ونجد من نحب قد استيقظ أيضاً. لعلنا في العام الجديد نستيقظ على واقع أفضل، وإلى ذلك الحين تذكروا نصيحة الزوجين الأميركيين. 

دمتم بخير

حنان فرحات

بيروت 1-1-2021