Feb 24, 2017

في الغياب



يَحدُثُ أن تلفِتَ نظَرك العفوية المُفرِطة. كانتْ تتحدّث وكنتُ أسمع. وبعد نهار طويل من سرْدِ الأحداث وتبادل العِبَر، قامتْ تُغادرُ إلى منزلها فتَنَبَّهنا إلى أنّنا لم نعرف بعدُ أسماء بعض! ضحِكتُ. بعض الناس لا تحتاج إلا إلى اسمِهم، وآخرون حدودهم مفتوحة، وأبوابهم مُشرعة، ومعابرهم سالكة. 

قلتُ لها: أمجنونة؟ كيف لا تجزعين على ضياع هاتِفك؟ أعني أنّه غالباً يحتوي على كلّ أرقامك المهمّة، وقد يكون فيه أرشيف ضخم للمواعيد والصور والمقاطع المُصوّرة! فأجابت بابتسامة لم تُفارق وجهها: ليست المرّة الأولى، ببساطة اعتدتُ! فقدتُ من قبلُ حقائب سفري في إحدى المرات حيث كنتُ ذاهبةً إلى أميركا.. وائتمَنت جارتي على المنزل والسيارة هناك حين اضطررت للعودة لأمر طارئ إلى لبنان. لم أستطع متابعة الأمر فوراً، وحين رجعت إليها كانت قد استولَت على كلّ شيء. هذه الأشياء تحدُث كثيراً.. كل يوم تقريباً. صرتُ أعتبر أنّ كلّ ما في الأمر رسائل إلهية. إن اشتريتُ شيئاً ثمّ سُرِقَ أعتبره رزقَ السارق.. وإن كسِبتُ مالاً ثمّ ذهَبَ لغيري أقول نصيبُه.. كلّ شيء يذهبُ ويعود.. المال والبيوت والأملاك.. كلّها تُعوّض..
وأنا أهزّ لها رأسي بالإيجاب قطَعت عليّ شرودي بتنهيدة، ثمّ أتبَعَتها: "من لمّا راح بيّي بطّل شي يِفرِق... راح الغالي، على شو بعد نبكي؟".

...

البارحة كان عيدُ الأمّ وكنتُ أقولُ رفقاً بقلوب اليتامى. لكنّني اليومَ أقولُ رِفقاً بقلبي المفجوع بغيابك. يقولون، يا أمّي، موتُ الفجأة صعبٌ. ويقولون موت المريض مِيتاتٌ لا ميتة. ويقولون صغير لم يتجاوز ربيع العُمر، ويقولون مسكين لم يبلغ السبعين.. ولِسانُ القَلْبِ ينطق ألّا سبَب يُهوِّنُ المُصيبة، ولا سِنٌّ يُخفّف وطأتها.. غيابكِ جارِحٌ مُحرِقٌ موجِع، وطيفُكِ المبتسِمُ لا يزيدني إلا بؤساً وضياعاً.
لا تقلقي، ما زلتُ أضحكُ للحياة.. أجاريها، ثم حين تُشيحُ وجهها عنّي أُلَمْلِمُ دموع اللهفة. صِرتُ موقناً أنّ المِشوار قصير، مهما طال.. وكلّ فقْدٍ بعدَ موتك بالٍ.

 …

نورُ عينيَّ الاثنتين كان. ظِلّي الذي لا يُفارِقني.
صدّقي أنّه كان يخاف عليّ من نسيم الهواء.. كان يقول:" بقلِب الدنيا على اللي بيزعلك"، وكان يعنيها.. كنتُ آمره ألّا يُخاطر بأي شيء قبل أن أوافق، وكان يحترم رغبتي لحِرصِه عليّ.. فهو يعلم جزعي من الفَقْد الذي شربتُ من كأسه مراراً ولم ينتهي ما فيه.. لكنّه مع ذلك تركني ورحل. جاء ليمنحني الأمل، ثمّ ذهب وسحبَ جذور الفرح معه. أصبحتُ الآن لا أخاف من شيء.. أموتُ، أعيشُ، لا فارق.. كَثرةُ الفَقْد أورثتني خدْراً في مواطن المبالاة.. 

...

الموتُ غيابٌ مفرِط، يَسقُط في حضرته العِتاب. تتعدّد وجوهه حين يأتي، لكنّه حين يذهب يبقى بلونٍ واحدٍ ونكهة واحدة. أظنّه يوماً بلون الكُحل، يزيد بالأسود القاتمِ الجمال.. أتُراه البُعدُ يزيّن الغائبين؟ أصحيح أنّ البشر مثل الأشياء، تزداد قيمتها بِنُدرتها، فيرتفع مقامهم بالرحيل؟ لماذا تكون الأنا فوقَ كلّ مَبلَغٍ إلى أن تصِلَ عتبةَ المَنِيّة؟ لماذا لا نعي قيمة الأشخاص قبل أن تُغلق على رُفاتِهِم أبواب القبور؟ وهل إذا فعلنا قبل ذلك نعيش ألَمَ الفَقْدِ مرّتين؟ مرة خوفاً من حلوله، ومرة بعد أن يَحِلّ؟