Aug 28, 2015

السّتار




الستار المنسدل مطوّقاً إيّاي يكاد يعدّل تعريف الظلمة ليصبح ما هو ناصع البياض..والسرير الذي لا أستطيع أن أرى أحشاءه يصدر أزيزاً كأنّه يتأفّف من طول رقادي عليه،.. عظامي تأنّ حتى تكاد تتفتّت، مرمياً عليها جلدي الذي أصبح واسعاً عليّ كأنني أصغُرُ على جسمي..
تدخل ابنتي الكبرى مشرقاً وجهها كأنني لست على موعد مع الموت. بلهفةٍ تعانقني وتضع الأزهار المتواضعة التي أعلم أنها قطفتها في غفلة عن حارس الحديقة العامّة على الطاولة الصغيرة بجانبي.
تخبرني كالعادة أن وجهي يبدو أفضل اليوم، وأن صحن مجدرة من صنع يديها يكفي لأن أعود قوياً كما كنت. تقول لو أن أمّها كانت هنا لما رضيت برؤيتي هكذا، فأتبع جملتها المعتادة ب "رحمها الله".. أعلم أن كلماتها تلك تنطلق إليّ من قلبها، مما تتمنى، لا من الواقع.
أسكت قليلاً- عن الإصغاء-، وتسكت عن الكلام.. أسألها:
"هل تأمّن المبلغ المتبقي؟"
فتردّ بابتسامة وهزّة رأس، ثم تتبعها بشرود أعلم منه أن كلامها غير دقيق.. أو غير صحيح.
عيناها المنتفختان تشِيان بأن نهارها موصول بليلها.. ربّما تعمل في غسل الصحون، أو كيّ الثياب. أيّاً يكن يبقى ذلك أفضل من الحياكة والتطريز الذي كادت أمّها أن تفقد نظرها بسببه.
أعود إليها فأجدها تتأملني، تسألني إلى أين ذهبت، فأضحك وأقول:
"إلى أين أستطيع أن أذهب!"
2
تحمل حقيبتها التي أكلت جزءاً من كتفها، وتقبّلني مستعدة للمغادرة. تنظر إليّ كأنّها تعتذر عن تركي، وأدرك أنها لا تستطيع البقاء أكثر، فحيث تذهب ينتظرُ يديها عمل لتكمله بعيداً عن نظري، قريباً من قلبي.
أراقبها وهي تغادر، ثم أمسك عينيّ عن الدمع وأقبض بيدي على قلبي فأجده يكوي نفسه مخافة أن يكونَ اللقاءَ الأخير..
بخروجها، تدخل الممرضة بثيابها البيضاء التي لا تزال تذكرني بالموت. لا أقدر إلا أن أتخيلها تغلق لي عينيّ وتستر وجهي بغطائي، ثم تبلّغ الطبيب المسؤول -غير آسفة- بانتهاء صلاحيتي..
تقطع شرودي بصوت خافتٍ لطيف:
"كيف حالنا اليوم؟ المعدّلات هنا تقول بأنّ صحّتك جيدة.. عليك أن تتفاءل ولا تتعب نفسك بالتفكير كي تساعد جسمك على التعافي."
دون أن أردّ عليها، تلقي إليّ بابتسامة ثم تهمّ بالخروج لتفقّد جاري خلف الستار. أودّ أن أستوقفها كي أسألها عنه؛ من يكون؟ لمَ لا تفتح الستارة فنتحدّث ليمضي وقت انتظاري لابنتي أسرع؟ لمَ لا أسمع صوت أي زائر له؟ هل هو في غيبوبة؟ تزداد تساؤلاتي وهي تبتعد ببطء.. ألتقط أنفاسي وبسرعة أحاول أن أستوقفها لأفرّغ ما في جعبتي من استفسارات..
"ياا آنسة.. من فضلك قليلاً.."
تستدير إليّ محوّلة نظرها عن الملفّ الذي بين يديها إليّ، ثم تجيب:
"تفضّل يا عم، بم أساعدك؟"
3
أسألها عنه. أتراه وحيد لا معيل له؟ أأخذت منه الحياة أكثر مما أعطت؟ أحلّت به فاجعة، أو نزلت به نائبة، أو وقعت على رأسه مصيبة؟
تردّ عليّ بتنهيدة ثم تتكلم بصوت منخفض كي لا يسمع :
" السيد هناك رجل ثري، كان سابقاً مديراً مهماً لعدّة شركات، وحين نزل به المرض، تهافتت عليه وسائل الإعلام وجاءته الوفود زائرة وامتلأت غرفته بالورود حتى أصبح يوزع منها على العاملين هنا.. كان في غرفة منفردة نظراً لأهميته وثرائه وعدد قاصديه.. مرّ شهر على مرضه، كنت كلما اقتربت من الغرفة أسمعه يتناقش مع ابنه محاولاً إقناعه باستلام منصبه نهائياً، والابن يرفض برّاً بوالده وثقة بعودته سالماً قريباً.. حتى جاء اليوم الذي خرج فيه الابن مطأطئاً رأسه مع القبول.. وبدأ انشغال الابن يزيد، والضيوف والوفود تقلّ.. أصبحت الزيارة مرة في الشهر، ابنته عادت إلى أميركا حين لم يَطِب والدها، ووسائل الإعلام وجدت بديلاً عنه تشغل نفسها به، وأمواله لم تعد تنفعه حين لم يقاوم جسمه بالشكل اللازم.. فأصيب بشلل بقدميه، وحالته الصحية غير مستقرة.."
"وابنه؟؟ ألم يعد يزوره؟"
"يزوره كل أسبوع أو اثنين.. يتصل أحياناً يسألني إن ما زال والده حيّاً، ويطلب مني أن أطمئنه أن العمل يسير بشكل جيد.."
وبينما كادت تنصرف، صُدِمتُ بابنتي عائدة تلهث، وقبل أن أفتح فمي، قالت بصوت تعِب:
"نسيت أن أخبرك أنني غداً سأتأخر ساعتين عن القدوم إليك، لكنني سأبقى بجانبك إلى الصباح، أخذت إجازة يومين لأنهي معاملات خروجك ونغادر سوياً.."
عندها، ما كان مني إلا أن أمسكت بالورود التي وضعَتها قبل على الطاولة، وطلبتُ منها مبتسماً أن تأخذها لمن خلف الستار.. ثم بصوت خفيّ شكرت الله على ابنةٍ رزقنيها، هي أجمل من الورد، وأغلى من المالٍ..
August 28, 2015

Aug 12, 2015

المرّة الأولى





ممدد أنت على السرير. الكل من حولك للمرة الأخيرة. وللمفارقة، هي المرة الأولى أيضاً. المرة الأولى التي يكونون حولك سوية؛
بحب،
ببكاء،
بعويل،
لا لمصلحة ولا لطلب ولا حتى لاستجوابك عن خبر.
المرة الأولى التي لا تبتسم لقدومهم. والمرة الأولى التي لا يتأملون ثيابك فيها لمدح تناسق ألوانها أو اتباعها آخر صيحات الموضه..
الثوب واضح لهم،
لكن البرد الذي يتملك أطرافك،
ينغرز فيهم إبراً كلما فكر أحدهم بلمسك.
عناق اللحظة الأولى تلك، أصبح مخيفاً.
أنت،
الذي كانوا يهرعون لعناقك،
والذي اعترفت أمك بأنها تتمنى لو أنك تمضي عمرك بين كفيها،
صرت شيئاً مخيفاً،
جسداً متيبساً،
حطباً،
حفنة رعب تمنع أحداً من لمسك.
صرت كومة تكاد تتعفن،
نفايات ذات رائحة كريهة..
فضلة يودون لو أنها تعود حياة،
لكنهم يفضلون إرسالك إلى سرير بارد، في غرفة مظلمة ضيقة، ذات سقف رطب وجدران تعتق فيها ماء المطر لتتسربل به جذور الحشائش.
بعد ذلك، سيبكون الليل بطوله. سيحسون بمجاري الدموع تفيض. سيشعرون بأدمغتهم طابات من الألم تتأرجح بين آذانهم. ستتورم مقلهم، حين تخرج إلى غير رجعة، وسيشدون على أيدي من بقوا، كما لو أنهم يرجونهم أن لا يغادروا هم أيضاً.
سينتحبون،حتى يشعروا أن ضرب رؤوسهم بالحجارة ربما قد يخفف ألم الفراق.
سينعونك على وسائل التواصل الاجتماعي،
سيصورون قبرك، مع باقة ورد ربما لم تحصل على مثلها في حياتك، وسيدعون لك بالرحمة.
سيقولون كان، ولم يكن مثله،
سيمتدحك من كان يغتابك،
وسيعرف قيمتك من كنت تداريه،
وسيندم من كان أحزنك،
سيحتضنون الوسائد والصور،
حتى يغفوا..
ثم حين يستيقظون،
سيبكون قليلاً،
ثم بقليل من الأصباغ سيخبئون الهالات السوداء،
وستغطي السيدات تورم أعينهن بقليل من فاقع اللون،
ثم سينطلقون بحجة أن الكون لا يقف لأحد،
وأن الحياة لا تتعثر بموت أحد،
ثم ستمضي الأيام،
وسينسونك.
وحده من يذكرك بعد مئة عام،
وتدمع عينه،
ويجفّ حلقه،
ويضطرب كفّاه،
سيعزّيك،
ويثبت أنك لم تكن رخيصاً..كثيراً.
August 12, 2015Top of Form
Bottom of Form

Aug 5, 2015

لا سلم ولا حرب




عشرون سنة واثنتان وأنا أخاف تسلق كل شجرة ولكن لا أمل من المحاولة،
أفوز بالمرتبة الأخيرة من كل سباق لكن لا أتوقف عن المسير،
أهتز عن الركوب على الدراجة لكن لا أقع،
أعلل لمن أحب البعد، ولمن لا أحب الجفاء، ولمن لا أعرف اختلاف السبل.
إثنتان وعشرون ورقة رميتها في نعشي، وبقي ما لا أعلم عداده.
اثنان وعشرون مسمارا دققتها يوماً بعد يوم في جدارية تملؤها الشقوق، علي بخيوط الأحداث أرممها حتى أكمل اللوحة.
اثنان وعشرون روزنامة اكتملت أوراقها اليوم،
اثنان وعشرون شمعة أطفأتها وأنا بحمد الله مغمورة بالنعم والأصدقاء والبسمات والحب.
اثنان وعشرون عاماً وأنا لا أنتظر تهنئة بانقضاء سنة من عمري قبل أن ألحق كل ما أريد من أمنيات،
واثنتا عشر دقة ساعة منتصف ليل تحمل لي في طياتها مفاجأة من أحد تذكرني على عجل بدعوة او مباركة لا تحمل قلبي الا على الابتسام.
اثنان وعشرون مرة أقول لمن لا يستطيع نسيان جرح، لا تنظر إليه لتنساه..
واثنان وعشرون مرة أقول لمن خانه الحظ، أنت من خان نفسك بالاستسلام له..
اثنان وعشرون مرة أقول لمن جعل أوراقه في يد غيره، لا تتلف نفسك،
إنما أنت دفتر لا تعرف عدد أوراقه.
واثنان وعشرون حرفا وستة أضاعوا الطريق إلى دفتري فلا أنا في سلم ولا هي في حرب!
August 05, 2015