Aug 19, 2023

تين ساحلي

منذ أسبوعين تذكرت التين، وظننت لوهلة أن الموسم فاتني دون أن أدري، وإذ بي ألمح حبات خضراء زاهية اللون عند أحد باعة الخضار في الحي مصطفة أمام دكانه. دكانه هذا الذي يشرف على شارع طويل ويفصله عن طريق سريع صفٌّ واحد من الأبنية، لا يحول دون وصول دخان خوادم السيارات والدراجات النارية إلى خضرواته.
 
قلتُ له باستغراب: "ظننت أن الموسم فات!"
فطمأنني أن الموسم يبدأ أوائل شهر أيلول، وأن هذا "تين ساحلي"، وكأنها تهمة لا حجة. شاركَته قريبتنا بعد سويعات رأيه، إذ رفضت رفضاً قاطعاً أن يشبه تيننا بأي شكل من الأشكال. 

تينُنا الرفيدي -نسبة إلى قرية الرفيد- الذي إن لم تقطفه بيديك مباشرة، أكَلتَه قطافَ يدٍ تحبها.. وكل ما ازداد احمرار حبة التين أخضرَ القشرةِ، أو حلاوة حبة التين الأسود الصغيرة، أو تسرب القطر من التينة 'العسالية'، تذكرت كفّيْ جدي تمام السادسة صباحاً تطرق باب منزلنا، ثم تفتح صندوق السيارة، يقاطع توالي الأحداث صوت أجش يطلب وعاء، ثم يلومني على صغر الوعاء الذي أحضرته، تغرف الكفّ من إناء كبير تيناً -وقثاء وعنباً-.. صندوق سيارة جدي يتسع لبستان، تماماً كما تتسع حقيبة الأمّ لمنزل.

أفكر فيما أضع كيس التين 'الساحلي' على حافة حوض المغسل، ماذا سأحمل بيدي لأحفادي بعد عشرين سنة أو أكثر؟ هل أضع في الصحن نصاً شاعرياً وعواطف مكتوبة؟ ثم أنظر إلى صغيرتي شهد وأسألها إن كانت ترغب بتذوق التين. تهز رأسها كما تفعل عند كل سؤال فأفسر الإجابة على خاطري،..
 أستعيد حواري مع البائع، "كيف أزيل الأوساخ عن التين إذ تضعه على حافة الطريق؟" فجاء جوابه غريباً بقدْر غرابة توفر التين مبكراً: "ليه الشجرة وين بتكون؟"
نقلت التين من الكيس إلى وعاء في حوض المغسل، وتذكرتُ غربة مريد البرغوثي التي بدأت حين اضطر إلى شراء زيت الزيتون في قنينة بدل الجرار التي اعتاد.. يبدو أن الغربة تسكن تفاصيل كثيرة أكثر بكثير من البعد أو الشوق. 

سكبت المياه في الوعاء وأغمضت عيني واستغفرت الله.. من يغسل التين يا الله! لم تقوَ أصابعي على فرك الحبيبات جيداً، أخرجتها من الوعاء ومسّدتها بمحارم ورقية أجففها كمن يستسمحها، ثم قطعت حبةً نصفين وناولت نصفاً لشهد، 

وضعَته في فمها ثم لَفَظَته. 

تين ساحلي، على رصيف شارع، في كيس، ثم يُغسل؟ كيف كانت ستبتلع ذلك كله!

حنان فرحات | بيروت | آب ٢٠٢٣