Apr 19, 2017

في الليل- مُعّدّل



يكتبون الليل يا عزيزة،... يُفنّدون على الأسطر معانٍ قاصرة عن وصفه، مجحفة في حقّه، ثم يقدمونها خَدَّاعةً على أطباق للذّواقة، فيختلط الحابل بالنّابل، ويلبَسُ الواقع رداء الزَّيف، ويتلوّنُ سوادُ الليل بالحزن فيما ينطوي بحلكته على إشراقاتٍ وتباشير. لذا اسمحي لي أن أحكي قليلاً مما أعرف عن رداء السواد، القصّة التي تلتحف بها الأرض كلما قررت أن تنام.

الليل، يا أعزاء، وشاحٌ ذو لون داكن، بأطياف متعددة. هو أسوَدُ ذو هيبةٍ كالكُحْل، ذو رهبَةٍ كالبحر، وذو رأفةٍ لمن أصابه بأس النّهار. هو الدّفء حين يجتمع الأحبة، والبرد يعصف بالوحيد ولو أغرَقَه الزّحام في الغربة.. وهو الظُّلمةُ في كُنه الغيابات، والظُّلم في قعر الزنازين، والحزن في عين المفارق، والبسمة على شفاه الحالم، والضحكة في قلب المُريد للشيء المُستحصل عليه.

أما بداية الليل فسهراتٌ ودردشات، أو حديث مع أخت غير شقيقة، أو مناقشة الخطوب مع صَديقة صِدّيقة... أو ربما سَفَرٌ مستَعجَلٌ عبر صفحات كتابٍ، أو غفوةٌ أقربُ لنصفِ إغماءةٍ في الطريق إلى المنزل على مقعد إحدى الحافلات.

ثمّ صُلبُ الموضوع احتضان الوالدة ابنَها كي ينام، وقصة يتلوها الوالد ليُحسّن نوعية الأحلام. وهو دعاء جدة للأبناء والأحفاد، وراحة للمتسول من مدّ اليد للمارة من الأغراب. والليل فسحة لِساعدٍ أنهكه معول النهار، واتّكاءة لرأس أثقله حِمل الأفكار. وفيما قد يكون الليل ستاراً لدمعة شوق، أو يأس وإذعان.. أو خافقاً يرتجف لفَقْدٍ أو خذلان..  يكونُ مراتٍ احتضاناً لسجدة شكرٍ وامتنان.. أومعقِلاً لطلبات السائلين من رب العالمين.

ونِصفُ الليل بداية انتهائه، يبدأ من عنده مشوار رغيف الخبز السّاخن، وكيس البَنِّ المطحون، ووريقات الجرائد اليومية. وفي ذا أيضاً ركعاتُ قيامٍ، أو استعدادٌ لصيامٍ، أو خطواتٌ عَجولة للّحاقِ جماعةً بالإمام. وفي جزءٍ منه، أيّاً كان، موعدُ إقلاعِ طائرة، وآخر لهبوط. وفيه توقُّف نبضاتِ قلبٍ، وانتظامُ غيرها، وشروق شموس العوالم الأخرى مراعاةً لفارق التوقيت..   

فالليل، يا سادة، قيلولة الشمس بعد إذ صعدت جاهدة إلى وسط السماء، وهو استراحة الغيوم بعد أيامٍ ملأى بالتخبّط وأخرى لا يشوبُ سكُونها النسيم. وأما النجوم فلألآتُ عِقْدٍ تتزيّن بها السّماء، تشرَعُ تُحصيها الغربان كل ليلة، حتى إذا ما شارفت على الانتهاء باغتتها إشراقة الصباح. 

وأمّا حبّات البَرَد فدموع الغيم المتسلّل إلى السّماء ليلاً حين يشتد الأمر على الضعفاء؛ تتكثّف الهواجسُ وتتشكّل ضرباتٍ ثقيلةً على الصّدر، جارحةً بُرودَتُها سطحَ الأرض.. وأما للسائلين عن حبيبات الندى، فماءُ ألفِ وردةٍ تختلط عبثاً بقطراتٍ مُنسابَةٍ من ريشات الطيور، وفي روايةٍ أخرى دموع الفرج يتهلّل بها وجه الأرض كلّما حلّ الربيع مُزيحاً الشّتاءَ -ليلَ الفصول-.

والليل يا أعزاء شارع يقف فيه، وحيداً، عامود الإنارة، وآخر تَغُصّ به سيارات المُنهَكين، وثالثٌ تشقّ سكونَه أنفاسٌ حيارى.. والليل بعيداً عن هذا وذاك: دكان مغلقة، وستار مُسدَل، وباب موصدٌ، وأغلال محكمة، وأجفان؛ مطبَقة أسيرة الهواجس والطموحات، أو مشرعةٌ يثبّتها الأرقُ من عُلوٍ وسُفل.

والليل حديث يطول، وآخر مبتور عند آخر لقمة عشاء أو آخر رشفة شاي، تماماً كما الآن.