Jan 26, 2013

الحق مش عليك! - قصة


 
1
 الساعة العاشرة قبل منتصف الليل:
منذ ساعتين، أخذت هدى(ثمانية سنوات) هاتفي الذكي، بالإضافة إلى هاتف أمها، وخلدت إلى النوم معهما لتضمن عدم إخلالنا بالاتفاق.. فمنذ فترة، وهدى تستقبل الضيوف بعبارة :''بابا عم يلعب بالتلفون''، وبعد أن أوضحت لها أن استعمالي له ليس لعباً، عقدنا صلحاً على أن أتوقف عن استخدامه غداً ، في حين تشرف هي على حجزه.. أما هاتف أمها، فقد أخذته لإرساء مبدأ المساواة في المنزل.
خرجتُ من الغرفة بحجة إحضاري لقلم كي لا تشعر زوجتي، ثم ببطء تسللت إلى غرفة الصغيرة الشقية.. فتحت جارورها بخفة متناهية، لكن لا.. ليس هنا.. مررت نظري على طاولة درسها.. تحت سريرها.. على الرفوف.. حتى أنني بحثت في خزانة ثيابها.. لا أثر له..أين يمكن أن يكون..نظرت إليها بقهر.. ثم هممت أن أغادر.. فلمحت ضوئاً خافتاً ينبعث من تحت غطائها.. ها هو ذا.. يبدو أنها ضغطت على أحد الأزرار وهي تتقلب.. لكن حركتها هذه جعلته تحتها، فلا أستطيع أن أنتشله منها..
 ألقيت عليه نظرة من ليس في يده حيلة، وعدت إلى غرفة الجلوس، حيث استقبلتني أم هدى بابتسامة ماكرة كما لو أنها عرفت بفشل مخططي، ثم قالت: ''مش رح إسألك وين القلم"،.. بعد ذلك، عادت بنظرها إلى المجلة التي بيدها.. أما أنا، فما كان لي إلا التّنهد.. ساعتان مضتا بين مجلةٍ أتصفحها، ومحطاتٍ تلفازية أقلب بينها، وعقارب ساعة أراقبها..بدت السهرة طويلة أكثر من العادة.. ومن سوء حظي، لم يزرنا أحد الليلة..
الساعة الثانية عشر عند منتصف الليل..
أخيراً.. أول لحظة أدرك فيها ما سأفعل، منذ أن غادرني هاتفي.. ارتديت ثياب النوم، ونزلت تحت الغطاء، ولسان حالي يقول :'' أين هاتفي في حلكة الليل يسليني..''، حتى غفوت..
الساعة العاشرة والربع صباحاً:
 أشعة الشمس تنساب من خلف الستارة وترتمي على وجهي.. لكنها لم تفلح في إيقاظي، بقدر ما فَعَلت يدا هدى وهي تهزانني حيناً، ثم تنتقلان إلى أم هدى عسى أحدنا يستيقظ ويُسَلِّيها..قمت بخمولٍ، ثم نظرت إلى يميني أتسائل لِم لَم نستيقظ باكراً.. أتراني نسيت أن أضبط منبه الهاتف؟؟..آه لا! نسيت تماماً أن يومي هذا سيكون من دونه!



2
توجهت إلى الحمام، غسلت وجهي، وعدت أبحث عن ساعتي الجلدية التي تخليت عنها حين اعتدت على ساعة الهاتف المحمول، حتى وجدتها بين أغراض هدى المبعثرة! أخذتها، ثم ذهبت لأضبطها، وبينما كنت أنظر إلى ساعة الحائط:''يا ربي!! عشرة ونص!!''.. تأخرت على موعد قهوتي الصباحية مع والدتي كل نهار أحد!
لبست بسرعة، وهرولت إلى السيارة لأذهب إليها. وإذ بهدى، على أتم الاستعداد، واقفةٌ بالباب..كان ذلك يعني أنه ممنوعٌ علي الخروج من دونها، فرضخت كي لا أقيم جدلاً وأتأخر أكثر..
 في السيارة: حاولت أن ألَمّح لها أننا تأخرنا اليوم في النوم بسبب غياب الهاتف، وأنه عليها أن تعيده دون أن نفسد الصلح بيننا.. لكنها زادت عناداً، واتهمتني بالرجوع عن قراراتي، والاستسلام لجهاز صغير.. فما كان مني إلا أن سكتُّ..
وصلنا إلى منزلي القديم، حيث تقطن والدتي وحيدة بعد وفاة والدي منذ سنين..ولم أكد أصل حتى هَرَعَت إلي ووجهها ينتابه القلق، وسألني بسرعة :''خير يا ابني! شو في ؟؟ شو صاير؟؟''.. شرحت لها أن الهاتف بعهدة الأميرة الصغيرة، وأننا سنمضي هذا النهار بكسر الروتين.. وفهمتُ، منها ومن هدى،  أنها اتصلت بي عندما تأخرت عن الموعد المعتاد فأغلقت هدى الخط، ولم تجب.. وعندما اتصَلَت أمي  برقم المنزل، قامت هدى بقطع التيار الكهربائي عن سلك الهاتف كي لا ننزعج أنا وأمها، فنستيقظ ويقلق الهاتف راحتنا!!
عدنا إلى المنزل، الساعة الثانية عشر ظهراً..
أشعر بالجوع،..دخلت إلى المطبخ وسألت أم هدى عما إذا كانت قد أعدت الطعام، فأجابت بالنفي.. ''صحيح، ما إلنا ساعتين فايقين.''، قلت لنفسي..ماذا سأفعل الآن.. لا أعرف مواعيد نشرات الأخبار، ولا أبتاع أية جرائد يومية، لأنني أعتمد على هاتفي في ذلك.. أحسست أنني منعزل عن العالم.. حتى حالة الطقس بتّ لا أعرفها..
 قررت أن أمضي الوقت مع هدى جزاءً لها، بما أنها أساس المشكلة.. أخبرتها بذلك.. ولم أكَد أفعل حتى أخرجَت لائحةً بالأشياء التي يمكن أن نفعلها سوياً.. ووقعت القرعة بدايةً على لعبة الشطرنج..
منذ زمن لم ألعبها.. فتحت هدى العلبة، ثم رتبت الأحجار بنفسها،.. وحمدت الله على ذلك إذ أنني لا أذكر ترتيبها حتى..وبعد ساعة من اللعب المحتدم، كانت قد أَسَرت حجارتي الفاعلة كلها، ولم يبق لي إلا الملك يحرسه ثلاث جنود قد ينهارون أمام أي هجوم..أما هي، فكان وزيرها على يمين ملكها، يشير عليه بالخطوات الأنسب، ويرد عنه ضرباتي الطائشة..


3
حصانها، والمجنون(الفيل) كانا مشغولين يضربان عبثاً جنودي ويأسرونهم، حتى تركوا القليل القليل، ثم انقضوا ببسالة الشجعان بصحبة القلعة الصامدة.. وضربوا حصارا على ملكي.. فما كان له إلا أن تنحى ذليلاً وسلّم نفسه..ساعة من الزمن أنهكتني .. لم أدر إن كانت هدى بالفعل ذكية، أم أن الكسل سلبني أسلوبي المناور الذي كنت أفخر به أيام الصبا.. بعد الخسارة لم أستطع أن أنظر في عينيها، فرحت أفكر بشيء نفعله، ينسيها ما حصل للتوّ..
الطعام لم يجهز بعد..
-''شو بدنا نعمل يا هدى"
''' نرسم ونلون؟ أو نطلع نسقي الوردات؟''..
إنّما المؤكد أنني اخترت ري الزهور.. فليس من اللائق أن أكشف أمامها أن أباها البطل الذي هزم في معركة الشطرنج، لا يتقن التلوين داخل حدود الصورة منذ أن كان طفلاً.. أو أنه ربما لا يملك الصبر الكافي لذلك..ولكنني لم ألحظ قبلاً أن لدينا زهوراً في مكان ما! فأي زهور سنروي؟؟ مَلَأت هدى إبريق الماء، ونادتني لأحمله، ففعلت..
مشيت خلفها لأرى أين تقع زهورنا، وإذ بها ثلاث علب بلاستيكية أنيقة ملفوفة بشرائط لامعة، وفي تربتها تباشير لنمو زهور عما قريب..سكبتُ الماء بسرعة لأساعدها، وإذ بهدى تصرخ :''بس، بس، بس! بيموتوا إذا شربتن كتير!''.. كانت تلك المرة الأولى التي أسمع بهذه المعلومة فيها،...والتي كانت بداية لشرح درس في العلوم، على يد هدى، استمعت إليه باهتمام الطالب النجيب ..
الساعة الرابعة بعد الظهر..
كنت قد بدأت أنسى هاتفي، حين جاء وقت الغداء.. دخلنا سوياً، وجلسنا إلى المائدة نتبادل أطراف الحديث أنا وابنتي، وأم هدى تستغرب من الانسجام التام بيننا، خاصة أنني أخرق قانون 'منع الكلام وقت الطعام' الذي كنت حريصاً أشد الحرص على تطبيقه من قبل.
تناقشنا في مواضيع عدة: الرياضة،.. وعلاماتها المدرسية،.. وعلاقتها مع أصدقائها،.. وطبيعة عملي..
 كانت بالفعل جلسة رائعة، تعرفت فيها على صغيرتي التي كبرت كثيراً خلال السنتين السابقتين، والتي أدهشني وعيها للمتغيرات والأحداث التي تجري حولها..
وبعد أن أنهينا الطعام، وقفت هدى، وتوجهت إلى غرفتها مسرعة، ثم عادت ويداها خلف ظهرها .. وقبل أن تفصح عن ما أحضرت، اشترطت عليّ أن نمضي كل نهار عطلة سوياً.. ثم أخرجت هاتفي وهاتف أمها، وقالت بصوت مصطنع:
''صدر عفو عام من سيادتي، يشمل هاتف بابا، وهاتف زوجته ماما، على أن يمضيا كل نهار أحد معي، كثلاثيٍّ يشكل أسرة رائعة''..
ثم سلمت أمها هاتفها، وتقدمت نحوي، وسلمتني هاتفي وعانقتني بشدة ونحن نضحك..
 ولم أقاوم نفسي، ففتحت هاتفي، ولم تزل يداها حول رقبتي تكاد تخنقانني، وبدأت أرد على هذا، وأعتذر من ذاك على عدم ردي عليهم.. ثم فتحت صفحة الفايسبوك لأرى التحديثات التي فاتتني، وأسرعت لأتصفح آخر الأخبار .. وبينما أنا غارق بين جدول مواعيدي لغد، وحساباتي في المواقع الاجتماعية، سمعت هدى تقول في غضب: "الحق مش عليك!''.. فابتسمت.