على غير العادة، دخل والده إلى المنزل متوجّم الوجه،
حزين القسمات. بدا أن أمراً قد أزعجه في العمل، أو أنّ صداعاً نزل به فأتعبه.
وقف خالد بنشاط لم يستنزفه الدوام المدرسيّ، وركض نحو
أبيه ليعانقه قبل أن يجلسوا لتناول الغداء. لكنّ والده لم يقابله بأكثر من ذراعين
باردتين امتدّتا لتطوقاه، ثم لتنسدلا جانباً بذبول. رفع خالد رأسه حتى تعامد مع
ظهره، ثمّ سأل باستغراب:
" ألا يكفينا عبوس أمّي اليوم، حتى تأتينا أنت
أيضاً مكتئباً؟"
"نحن آسفان يا خالد، نحن حزينان لفقدان شخص عزيز
علينا.. لا تتعب نفسك بالتفكير في الأمر، لكن اعذرنا إن لم نمازحك هذه الفترة كما
في العادة.."، أجابته أمّه بحزن وهي تضع طنجرة الطعام على الطاولة.
جلسوا ثلاثةً ليأكلوا.
لكنّ أيّاً منهم لم يأكل. فالوالدان لم يكونا في حالة ذهنية تسمح لهما
بالتفكير في أيّ شيء عدا مصابهم الأليم. أمّا خالد، فاكتفى، بعد أن ملأ صحنه
بالطعام، بمراقبة والديه الذين كانا غائبين بقدر ما كانا حاضرين.. ثمّ تسلل خلسة،
وعلانية، أمام ناظريهما الشاردين لينزوي في غرفته ريثما يعود المنزل كما كان قبل
أن "يغادر" ذاك العزيز. ثمّ خطرت في باله فكرة..
لِم لا يطلبان من ذلك العزيز ببساطة أن يعود؟ وإن كان هو
قد قرر المغادرة، فسيكون الأمر لصالحه.. لم هما حزينان إذن.. راودت الأسئلة الصغير
قبل أن يصل إلى والديه ليراهما في المشهد ذاته الذي تركهم عليه. وما إن فتح فاه
الصغير سائلاً إياهما: "لم لم تطلبا منه أن يعود؟ أو يمكننا أن نذهب لزيارته
لاحقاً في العطلة؟" حتى انفجرت أمّه بالبكاء.
لم يعلم ما الخطأ الذي تفوّه به، لكنّه أدرك أن ما قاله
أمر محزن، و على الأغلب.. مبكٍ.
أدار والده وجهه إليه ثمّ قال: "غير ممكن. بل
مستحيل". فالتقطت الأم كلمة "مستحيل" وبدأت بالنحيب أن من المستحيل
أن يعود أبو عزت، شيخ الشباب، والدها الثاني. وعلى وقع عويلها، طأطأ الوالد رأسه
كأنما ينقصه من يذكّره بالفاجعة: "مات ليرتاح.. رحمه الله.. ولو أنّه ما زال
في صحته وشبابه".
حينها، التفت خالد عائداً غلى غرفته قبل أن تؤول الأمور
إلى الأسوء.
حين جلس على سريره، تذكّر أبا عزّت، ذاك الرجل العجوز،
محدودب الظّهر.. رآه قادماً نحوه، يضع يده في جيبه، ثمّ يخرجها له بحفنة كبيرة
بقدر كبر كفّ الجدّ من القضامة الملوّنة. تذكّر ابتسامته الواسعة حين لم يتّسع
كفّاه الصغيران للحفنة،.. حينها قال لأبي عزت: "حين أكبر، وتكبر يداي أكثر من
يديك، سآخذ القضامة من جيبك بيدي."، ولكنّ أبا عزّت سارعه مقهقهاً: " ما
رأيك أن تعطيني أنت القضامة من جيبك حين تكبر؟" ..
شرد خالدٌ في تلك الحادثة، والكثيرات اللاتي حصلن قبلها،
حتى تبين أنّ له نصيباً أيضاً من الحزن.. لكنّ ما لم يفهمه هو كيف يكون أبو عزت
العجوز شاباً، وهو، بسنينه التسع، سمع صديق والده يقول عنه منذ أيامٍ مستغرباً:
"ما شاء الله، صار شابّاً!".
ارتمى إلى الخلف وقال:" ربّما من يأكل القضامة يكون
شابّاً.. ربّما".
December 12, 2014