Nov 30, 2015

رجلا مجمود



 

مستوحاة من قصة حقيقية
"قلبي يتسع لكم جميعا...”، هكذا كانت تقول أمي عندما يسألها محمود إن كانت تحبه أكثر مني، وهو كان يرد بأنه سيبسط رجليه بما أن المكان واسع في قلبها.
نعم، كان واسعا جدا..
كان واسعا بما يكفي ليستقبلنا بشوق عندما نعود من العمل تماما كما كان يفعل عندما كنا أطفالا صغارا..
باللهفة ذاتها لإطعامنا كما لو أننا لم نأكل منذ دهر، مع أنها تحرص على إطعامنا صباحا قبل أن نغادر وتعطينا ما يكفينا من الطعام كي لا نجوع..
بالخوف ذاته علينا من أن نبرد إن لاح الشتاء من بعيد، فتغرق أسرتنا بالأغطية والملاءات التي تكفل درجة حرارة تستقر على 40...
بالحرص ذاته الذي يمنعنا من التلذذ بالبوظة إن ما بدأ الخريف كي لا يصيبنا السعال، والذي يغلي لنا التين الأسود والسفرجل إن ألمت بنا كحة ثم يذيب العسل بمياه فاترة ويتبعها برقية ولوم للحساد..
كف أمي كان دائما ولم يزل أدفأ من مدفئة، والنوم في فراشها أسرع مفعولا من مسكن آلام، ودمعة من عينها أصعب من طعن السكاكين، وبسمة على وجهها أبهى حلة من طوق ياسمين.
قلبها كان الذي يتكلم عندما تنبهني أن لا أشبع قبل أن يشبع أخي، فصرت لا آكل قبل أن يأكل.. وقلبها الذي كان يؤنبني عندما أخطئ فيكون درسا أحفظه كي لا يؤنبني غيرها عليه.. وهو الذي كان يحرسني بدعاء يتناغم مع دقاته.. وهو الذي لا يفتأ يتعبني بعزة النفس إن احتاجت هي لكوب ماء..
قلبها ذاته الذي يتسع للجميع، أنهكه الجميع. أصبح ينبض بتثاقل، فيصمت ويتغاضى عن المشاكل.. حتى لم تعد المشكلة إلا فيه.
قال الطبيب إنها تستطيع استبداله بآخر، مع ضآلة احتمال نجاح العملية.. لكنها رفضت.
خافت أن لا يتسع قلبها الجديد لرجلي محمود.

Nov 22, 2015

كلنا للوطن أم عليه؟



يقترب طفلٌ ليُسلّم عليّ، فيروّعني منظر وجهه محمرّاً إثر ضربة على خدّه أو ارتطامٍ لا بدّ أن يكون قد تسبب له بألمٍ مبرح، ثمّ أدقّق للحظة قبل أن أسأله ماذا حصل.. "آه.. علم لبنان".
نعم، إنّه علم لبنان يا سادة. على خدِّ طفلٍ قادمٍ من المدرسة العلم المشوّه الذي انتقل بعضٌ من أرزته بحكّة إلى الأنف والجبين، وفي صورة على "يد" شابّةٍ في "سناب شات" مع تعليق "في القلب يا وطني"، وعلى صورة الغلاف في حسابِ شخصٍ ألهَبته مشاعر الوطنية.
ثمّ أُمسك بالهاتف متّصلةً بأحدهم، فتصدح سمّاعته بالنشيد الوطني.. تقول كلّهم للوطن. أبتسم. أحاول الإتصال بأحد آخر، النتيجة ذاتها. "وأخيراً طلع شي بإيد هالدّولة".. ولو كان قليلاً. يوم عطلةٍ رسميّة إضافي بمناسبة عيد الإستقلال لكونه صدفةً في عطلة نهاية الأسبوع، ورنّة هاتف تؤخر مكالمتك لِستّ كلمات. ابتسامتي لم تكن ذاتها ردةَ الفعل عند باقي مَن هُم للوطن. البعض أقفل هاتفه منفعلاً، "لمّا يصير عنّا وطن بنبقى نعملّو نشيد.. أنا مش ضدّ النشيد.. ضدّ المعنى المش موجود".
في المدارس اختلف رسمُ العَلَم. البعض يشكّلونه من كريات الورق المقوّى، وآخرون يضعونه تيجاناً على رؤوس الأطفال. وفي بعض الأحيان، يغدو الطفل بِتاج على شكل علم، وعلم مرسوم على خدّه، وآخر على يده إن أعجبته فكرة التلوين، إلى جانب عودٍ رفيع طويل يقبض عليه بيده طوال طريق العودة إلى المنزل. أيامَ كنّا أطفالاً، كان الإستقلال جميلاً. أن تدور في أروقة المدرسة في مسيرة العلم، تغنّي بصوت عالٍ فيضيع صوتك بين الصّفوف، وتضيع حصةٌ تعليميّة فتصبح "الطّلعة" الغير مشروعة إلى "ما بين الصفوف" في وقت الفسحة أمراً مفروضاً لَأمر لا يُفَوّت.
وفي مكان آخر من "الوطن"، كانت أيدٍ تُغمَس في الطلاء لِتُطبَع على قماشٍ أبيض، مُشكّلةً العلم، رمزَ الوطن، لأنّ سؤالاً يطرح نفسه في كلّ استقلال، وكأنّما يجيب عليه الشّاعر الكبير أحمد مطر فيقول:
 نموت كي يحيا الوطن، يحيا لمن ..؟!!
من بعدنا يبقى التراب و العفن،
نحـن الوطــــن
وبين رسم علمٍ بشموعٍ لراحة نفسِ من قضى في سبيل الوطن، وأخرى لِتُضيء برسمها علمَ وطنٍ تنطفئ مصابيحه عند أوّل "شتوة"، وتنقطع مياهه عند أوّل بزوغِ صباح صيف، يصطفّ آخرون ليكتبوا إسم "لبنان" بتكاتُفِهم..
كلّ أولئك قالوا "كلّنا للوطن"، تماماً كما قال من فضّل تشريف لبنان في عيد استقلاله بتحطيم رقم قياسيّ جديد، لتصبح "أكبر منقوشة زعتر" إنجازاً جديداً للبنان إلى جانب أكبر صحن حمّص وأكبر صحن تبّولة.
لكن يبقى السّؤال، هل حقاً "كلّهم للوطن" عندما لا يتفق أصحاب القرار على انتخاب رئيس "للوطن" فيبقى لبنان جسداً بلا رأس؟
وهل يكونون "للوطن" عندما يخطئون مراراً في اختيار ممثليهم، أم يصدق الفنّان جورج خبّاز عندما يغني لبنانَ ب " كلنا عالوطن ... كل واحد عندو علم"؟
وهل سيبقى للشّعب فرصة لِيُحبّ لبنان كما تقول السّيدة فيروز "بفقرك بحبك و بعزك بحبك"، أم سيموت جوعاً أو برداً قبل أن يستطيع التعبير له عن حبّه؟
 ثمّ هل سيستطيع أن يتناسى الطّائفية والمذهبية ليحبّ لبنان "بشماله وجنوبه وسهلِه" أم أنّه سيقتطع من وطنه قِطعاً قبل أن يبدأ بالحبّ؟!

Nov 14, 2015

فارس




حين أسماني والدي فارس، لم يكن يمتلك حصانا. لربما ود ذلك ولم تسعفه الأقدار.. رمقته أمي حين سمعت الإسم أولا.. لم تعجبها صورتي في خيالها، واقفا على ناصية الحلبة وبيدي سيف يرتفع عن رأسي ذراعا.. لاحقا، لم تعجب أمي صورة "فارس" الولد الكرتوني في إحدى المجلات.. فهي لم ترد لي أن أكبر لأصبغ شعري أصفرا وأسويه ك"أشواك القنفذ"، بالرغم من أنها كانت تريدني أن أكبر بشدة.
حين لم أكبر، لم تجد أمي اسما أغلى عليها من اسمي لتناديه.. ثم لامت أبي أن أسماني فارس... لو اختار غيره لربما اختلفت النهاية.. لربما كبرت.
November 14, 2015