Feb 20, 2012

عصارة الأيام



أغمض عينيه، علّه يهرب بأنظاره من الواقع، ذلك الوحش المفترس الذي كاد أن يقضم بأسنانه ما تبقّى من الجَلَدِ الذي يحويه جسده الهزيل. ذهب بهما بعيداً حيث توجد تلك الأطياف النّورانيّة التي تُدعى الحرية والسلام، لكنّه سرعان ما شعر ببراثن قويةٍ تنتزعه مجدّداً لتعيده إلى الأمس، حين أفاق على زقزقة العصافير، وخرير الماء في البركة أمام المنزل، ثم توجه إلى المطبخ ليتناول إفطاره مع إخوته...

لا، لا، ... لم يكن ذلك أمسه، فقد أخطأ مجدّداً بين ما حَلُمَ به وبين الحقيقة: هدير الطائرات الإسرائيلية التي تحلّق في الأجواء كالعادة، وتقصف أحد الأهداف المدنية، فتسيل الدماء، تماماّ كما لو أنّها مياه البركة... وفطوره، لم يكن مع إخوته، ولا مع أمّه، ولا مع جدّته...بل كان مع أقرانه في الميتم، حيث جمعتهم مأساة فقدان الأم الحنونة والأب المربّي ،حيث لِكُلٍّ قصّته، ولِكُلٍّ أَلَمُه...

كان "سامر" و"علي" و"محمّد" و"حسن" إخوته وآبائه وأصدقائه، وكانت "عائشة" و"مريم" و"آمنة" أخواته وأمهاته وصديقاته... كانوا جميعاً يداً واحدة: الخائف منهم يَحُثُّهم على الشجاعة، والصغير منهم يَحُثُّهم على الصبر،... كانوا جميعاً حيث لا يجب أن يكونوا، في أحضان الهلع والموت والدّماء قبل أن يتجاوز أكثرهم العقد الأول من عمره...

ولم يكد يشعر"جهاد" بقربهم منه، حتى ضاعت الصورة، وتداخلت الألوان، فخسرهم مرّة أخرى، بعد أن شتّت إحدى القنابل أشلائهم، وجَمَعت أرواحهم في الفردوس الأعلى...مدّ يده إليهم، وناداهم بأعلى صوته أنِ انتظروني، ولكن كان لروحه موعداً آخر مع الحياة...

فتح عينيه هنيهة، تماماً كما لو أنه يفتحهما لأول مرةٍ، لكنّ شريطاً من الأحداث والوقائع المريرة التي رفض أن يبقى أسيرها عكّر صفو تلك اللّحظة، هذا الشريط هو الشيء الوحيد الذي ميّزه عن لحظة ولادته. فالقدَر الذي صعب عليه نزع إصراره وثباته على الحق، أثقل جفنيه بالذكريات مرةً أخرى، آخذاً إيّاه إلى الماضي البعيد البعيد،...

أخذه إلى الدقائق الأولى التي أمضاها في الحرية... كان مفهومها لدى جهاد مختلفاً، فالحرية لم تكن لِتعنيَ المُكوث خارج القضبان بالنسبة لوليدٍ في الأسر، بل عَنَت مجرّد التواجدِ قُربَ الأُمِّ، والشعور بأنفاسها، ودقّات قلبها الحاني... ما إن حفِظ قسمات وجهها، ونبرة صوتها، وإشراقتها في الزنزانة المُعتِمَةٍ، حتى بُشِّرا بالحرّية، فخَطَت أمّه  تُعِرِّفه على الشمس والنّسيم، عابرةً به إلى العالم، راميةً نفسها ووليدها في أحضان الوالد الذي كُتِبَ له لُقيا ابنه الأوّل على بوابة السجن الإسرائيلي الغاشم.

 كانت أولُ صدمةٍ له، التعرّف إلى مفهوم "المنزل"، فقد أمضى جهاد ليلته الأولى بصحبة والديه تحت الجدار الأخيرالصامد من البناء الذي كان سيكون منزله، بعد أن اعتاد على العيش بين جدرانٍ أربع، وتحت سقفٍ يظلّله من السماء!


السنوات الكثيرة التي شاركه والداه فيها القلق من صاروخٍ قد يخطف أحدهم من الحياة، والتي تلتها دائماً ابتسامة فرحٍ، وحمدٌ لله على النجاة، الأسابيع التي قضوها في العراء وكلّلوها بالدعاء، الأيام التي صامها والداه كي يطعموا ثغره الصغير، والساعات التي أمضاها وأمِّهِ في انتظار عودة والده من المساعدة في انتشال الضحايا من تحت الركام... كلُّها... لم يكن لِيَتَصَوَّرَ أن تَمُرَّ بهذه السرعة... ولم يكن لِيَتَوَقَّع أن تكون تارةً سبباً في بكائه وطوراً في صموده!

كم كان فرِحاً حين جمعه التّهجير من بلدته بجَدَّيه وعَمِّه! كان لقاءً حارّاً مليئاً بالدموع أدرك فيه جهاد معنى العائلة الواسعة، والصعوبات التي تحمّلها والداه بعيداً عن أحِبَّائهم.

رأى الأطفال أمثاله محرومين من أبسط مقومات الحياة، فتعلّم الشفقة والإيثار...تماماً كما تعلّم منهم الأمل مع كل ابتسامةٍ شقّت طريقها من بين الشفاه الجافّة...

تنهّد بعمق، ثمّ قلب صفحات كثيرة من ماضيه، تتساوى كلّها في المضمون: أشلاء، ودمار، ودخان،...أرامل، وثكالى، ويتامى،...خوف، ورعب، وعويل،... لكن لا..صفحة صفراء...صفحة مختلفة...استوقفته.

كيف لا؟ ففي طياتها تعلّم الآهات والتنهدات وله من السنين سبعة. لا زال يذكر جيّداً كيف طلبت منه أمّه إمضاء بعض الوقت خارجاّ مع أصدقائه ريثما ينضج الغداء. لكن في ذلك اليوم، وحتى في اليوم الذي تلاه، لم يكن ليقدر على تناول الطعام...بل ولم يكن ليقدر على رؤية الطعام...لأن الطعام آنذاك، وفي اللحظات التي فصلته عن العودة إلى المنزل، نضج تماماً كما نضجت أجساد والديه...نعم،! فقد كانا على موعد مع الشهادة، تحقّقت أمنيتهما، وارتقت أرواحهما سويّة ألى الرفيق الأعلى،...وتركته وحيداً، أسير الدّنيا، مكبّل اليدين.

ومن ثمّ توالت الصفحات الصفراء، بل وأصبحت في اصفرارها تميل الى الاحمرار،...

في سنوات قليلة، فقد أعز ما يملك: والديه، جدته، عمّه،...

ضمه الميتم، ليُفقده القدر أصدقائه هناك،

الكثيرون الكثيرون من من عرف، سبقوه إلى ما تمنى،...

كان يستشعر وجود الله معه في لحظاته العصيبة، فيلجأ إلى ترتيل ما حفظ من آيات، لتدخل إلى الصّميم وتسكّن الآلام، وتبلسم الجراح...

تنفس بعمق....

لااا، لن تقف مرارة ذكرياته مرة أخرى عقبة في سبيله إلى الحرية...استجمع قواه التي لطالما استوحاها من اسمه، الذكرى الوحيدة التي تركها والداه، ومشى...

فعصارة أيامه اليوم، ستكون الدواء الذي يكوي جرحه، فيشفيه.

 


Feb 13, 2012

غداً سوف يكتب التاريخ عنهم ...فاليفرحوا...


ليسوا ضحايا للقذائف...

ولا شهداء الألم...

ولا يتامى،

ولا ثكالى،

ولا أرامل...

لم يفقدوا العزيز والقريب والحبيب ...

لم يكوهم برد الشتاء في ظل الجدار...

لم يحلموا بالموت للنجاة من حصار...



فلو كذا...

لخجل القلم...

فليس من مقام المجد حبر وورق...

أو كتاب يرسم التاريخ حتى يهترئ!



بل سيكتب عن رؤسائنا المبجلين...

وقادتنا العظماء...

وعن سادتنا الموقرين...

الذين يسمعون أصوات القذائف، والأنين...

فيحسبونه صوت النسيم...

أو صفير الريح، أو بعض الرنين...





أولاءِ قد أضحوا حجارة...

لا يبدد شملها عويل...

ولا نداء غوث من طفل عليل...

باعوا تَرِكَة العُربِ بالذهب الأصيل...

باعوا الشجاعة والمروءة...

ثم تأسفوا...

واستنكروا...

وندّدوا...

وخرجوا بخلاصة مفادها...

وجوب غض البصر...

فالحقيقة: فيلم لأصحاب القلوب القوية!!





لم يدركوا أن لا قلوب لهم...

لم يدركوا أن لا ضمير لهم...

فاليفرحوا...

فاليفرحوا...فغدا فوق السطور سيجثمون...

وعلى صدور من سيحفظ السطور،...سيطبقون...

سوف يكتب أنهم فقدوا الحياء...

في حفل حاشد كبير...

يعلن افتتاح نافورة الدماء!

وهل يلام فاقد القلب؟...

 والضمير؟





بالله هل يلام من لسان حاله يقرّ:...

لست إنساناَ، ولا يهمّني حال البشر!