Showing posts with label خواطر وقالات. Show all posts
Showing posts with label خواطر وقالات. Show all posts

Jul 19, 2015

البسمة عيد



"..أفتح عيني كما في كل عيد،

لم أعد أرتدي روح الطفل الذي يوزع ثيابه الجديدة امام السرير كي يرتديها أسرع ما يمكن حين "يأتي العيد"
الثياب الجديدة لا تزال موجودة، وإن في إحدى زوايا الخزانة، مطوية باهتة، لا لون للعيد فيها.
 
لكن حين يدخل خالي صباحاً ليعيدنا قبل أن يذهب للصلاة، علي أن أكون جاهزة. لا بأس إن بغير ثوب جديد، علي فقط أن أستعد لجملته المعتادة:"أين ثياب العيد" وهو يضحك.."لم يأت العيد إليكم بعد!".

ربما الحقيقة القاسية كسرت في براءة تلك البهجة. العيد لا يأتي، بل نحن من نذهب إليه أو لا نذهب.
لذا لا يهمّ.

سأرتدي له البسمة اليوم، ستكون عيدي، فالبسمة عيد، والصحة عيد، والأهل والأحباب من حولنا أجمل عيد."

Jun 21, 2015

مقابلة لمجلة "الجامعة" في عددها الأول


1-      معروف أنك طالبة هندسة ، أين هي العلاقة والرابط بين اختصاصك وأسلوب السرد  والقصة المعتمد؟



في الواقع، الكتابة أسلوب حرّ للتعبير، يحتاج، بلا شكّ، إلى مهارة في اللغة، وإلى معجم كبير من المفردات لاكتساب الليونة، كما يحتاج إلى مخيّلة واسعة ليتمكن الكاتب من إيصال شعور الشخصيات وطرائق تفكيرهم بما يتناسب مع المشهد المطلوب. لذا، فهو بعيد أشدّ البعد من أيّ اختصاص في غير اللغات.  وبالتالي، لا علاقة للسرد القصصي باختصاصي، إنّما يمكن أن يُعتَبَرَ مُتَنَفّساً لي بعيداً عن الهندسة.



2-       الى أي حد تجدين في الكتابة  طريقة للتعبير عن الذات وكيف يعبر "فنجان ظل فنجان قهوة" عن حنان فرحات؟



"عقل الكاتب في قلمه"، فإن ازدحم العقل  بالأفكار، فلا راحة له إلا بالحديث أو الكتابة. وإن كان ما في العقل أدعى للحفظ، كانت الأوراق أولى من أسماع الآخرين بتلقّفه.

ولا تكون الأفكار معبّرة عن الذات بالضرورة. فقد تجسّد معتقدات أشخاصٍ آخرين، أو تتركّب في مشاهد تعيد صياغة تجارب غير شخصية، كما حصل في أكثر من قصّة في المجموعة القصصية. وبالتالي، تكون عملية الكتابة إمّا ذاتية مجرّدة ( كما في القصة الأخيرة: فصول من زيارتي للعدم)، أو تحوي بعض التسرّبات الذاتية التي تغزو النتاج الكتابي (كما في باقص القصص).



3-      تبدو الحرفية في الكتابة جلية في كتابك الجديد. من أين ذلك لطالبة هندسة مفترض أن تكون بعيدة كل البعد عن فن الكتابة؟

لعلّ للّهفة على القراءة  دوراً مهمّاً في بناء المعجم اللازم للكتابة، وتنمية الخيال المطلوب من أجل تحصيل القدرة على تصوير الأحداث بالدقة المطلوبة. كما إن الاستمرار في الكتابة، إلى جانب تقبّل النّقد البنّاء يساعدان على تطوير الأسلوب أكثر فأكثر.



4-      لو خيرت بين الهندسة والكتابة كإيطار مهني، أي مهنة تختار حنان فرحات؟



فكرة العمل في الكتابة بشكل دائم تبدو خلّابةً، إذ لا متعة لدي أكبر من تمضية الوقت في الكتابة إلا تمضيته في القراءة. لكنّني أرى نفسي في مجالات الهندسة المهنية، وإلا لكنت تخصصت في اللغة العربية وآدابها. لن أنقطع بإذن الله عن الكتابة، وأرى أنّ كلماتي ستكون أنقى وأكثر حريّة إن لم تكن مقيّدة بكسب العيش، حذوَ الكثيرين من الكتّاب المهندسين.



5-      "في ظل فنجان قهوة" عنوان يقدم الكثير من الاشارات والإيحاءات . ما الذي قصدته حنان فرحات من هذا العنوان بالضبط ؟



"في ظل فنجان قهوة" هو عنوان لإحدى القصص الرّمزية التي تضمّنها الكتاب،  وقد فسّرته بمقدّمة منفردة:



في ظل فنجان قهوة ثلاث: قهوة، وفنجان، وظل.

أما سر الفنجان فسرٌ أبيح على كل طاولة في كل مقهى متربع على إحدى رقاع الوطن.. وأما ظله فصرح يختبئ خلفه الجميع من صدى اصواتهم،.. وأما اقهوة فحبيبات لما تنجح في إقناعي بأن لمرارتها لذة.

وأما أنا، فمارّة من جانب الفنجان، دوّنت كلماتها وغادرت تبحث عن آخر.



 ولعل هذا المقدار كافٍ لإيضاح الإبهام المقصود.





6-      بعد هذا النتاج الناجح، هل من جديد في المستقبل القريب؟



أعمل حالياً على مشروع رواية مختلفة نوعاً ما، لكنّها ما زالت بحاجة إلى بعض الجهد. أتمنّى أن يسعفني الوقت لتصدر في الأشهر القليلة القادمة.


جزيل الشكر للجامعة اللبنانية الدولية التي احتضنت توقيع الكتاب، وتفضّلت بإجراء هذا الحوار معي.

Mar 22, 2015

كتب بغير قصد: حكم عليّ بالمدرسة

الطّفلة المدلّلة، أنا، حُكِم عليها بالمدرسة! في هذا العام المبلللة بدايته بالدموع، تعرّفَتْ على مكانٍ سيحتويها لأكثر من نصف النهار طوال الإثني عشر سنة القادمة. سيقت إلى غرف بدت كئيبة بادئ الأمر.. هي ذاتها التي ستعود لترى جدرانها التي نعتتها بالكئيبةِ مطليّةً، فتتحسّر على الذكريات التي غطّاها الدّهان ليبهر أعين الأطفال.. 


في تلك الصفوف تعلّمَتْ أنّ للأوراق ذاكرة، وأن الأقلام مفاتيح تخزين. فحملت قلمها معها أينما ذهبت: في الصف، والملعب، والمنزل. وفيها أيضاً ضحكت وبكت ببراءة..

 تقاسمت طعامها مراتٍ مع أصدقائها، وطعامهم مرات أخرى. حكّمت حساسيتها المفرطة في النّزاعات فحزنت نهاراً، ثم طِيبتها، فنسيت النزاعات ليلاً. وكم استغربت لاحقاً كيف أمضت تلك الساعات الطوال مع أشخاصٍ لم تسمع عنهم خبراً مذ غادروا الصف لآخر مرة سويةً.. وكيف توطدت علاقتها بعد سنين من الفراق بمن لم يحدث أن جمعهم حديث عابر في رواق المدرسة! لم تدرِ إن كان يتوجب عليها في ذلك السنّ أن تقدّر أن أولئك الأصدقاء الذين جمعهم كأس الحليب اليومي حول الطاولة المستديرة لن يجمعهم سقفٌ تحته مجدّداً.. وأن أقلام التلوين التي تشاركوها يوما مقتتلين على لون منها أو أكثر ليست إلا عينة صغيرة من خلافات متجذرة في طباع بني آدم وحواء..


حين دخلت الصف أول مرة بكت.. وبالدموع المالحة ذاتها انتهت زياراتها اليومية لذلك المبنى بعد اثني عشرة سنة. أما الذين ضحكوا منها في اللقاء الأول فلم يختلف حالهم مع مرور الوقت. هي لم تداري دموعها أو تخجل بها.. فليس يخجل من يحزن لفراق ذاك الكمّ من الأصدقاء، والأساتذة، والمكان الذي توزّعت عليه بصماتهم اتكاءً وتدافعاً ولمساً.. بل هو، الذي لا يحزن،  قد أضاع الكثير من الوقت في أسرة لن تعنيَ له أكثر من محطة لعابر سبيل.

Mar 8, 2015

كُتِب بغير قصد -1-

لبنان- الرفيد- 1993

بعض التّواريخ تُدفن في ذاتها. تماماً كما تدفن جثامين الآلاف يومياً حول العالم. في بعض الأحيان، أتعجّب كيف للكرة الأرضية أن لا تلفظ ما فيها من رفاة الظالمين بعد أن احتوت طهر الشّهداء والمكافحين والصابرين. تكاد تكون الأمّ الحبلى بالموتى.. تميّز خبيث أجنّتها الكهلة من طيّبها، لكنّها تطبق عليها بحنانٍ ساترٍ لريح نافخ الكير كما لحامل المسك!
اليوم وُلدت لوالدين حديثي العهد بمسيرة الكفاح. البسمة تكاد لا تفارق وجهيهما، كما وجوهَ الكثيرين المتفرّسين فيّ! في هذا النّاحِ من القرية تزغرد جدّتاي لقدومي. عرفتهما من خربشات الزمن التي تطغى على ملامحهما. أحببتهما دون أسماء، قبل الدّلال، وقبل الذكريات وقبل ما يُعرف عن الجدات من حكايات. لم أزن حبّي لهما بجمالٍ، أو حسن معاملة، أو ملء قبضة يدٍ من السّكاكر والحلويات.. ولم أُخضِع حبّي لهما لتاريخٍ يدوّن شمالاً في أعلى الصفحة، إذ لن أنهيه بمثيل له.
بينما استقبلتني  بمنظر مُصفَرّ الخضرة وسط آب حارّ، بدت القرية كسنبلة سمراء، مثقلة بحبيبات القمح. هنّ، الحبيبات، حكماء القرية العجائز. يُحصدون –العجائز- إذ تنتهي الأعمار، وقد أَطعموا الفتية نتاج تجاربهم، ثمّ يدفنون في باطن الأرض. تغوص أجسادهم، فتذيبها الأرض وتذروها تراباً.. وفي مكان آخر، يغمر التّراب أيضاً حبّاتٍ تتظافر لتنموَ حقول قمح ثريةٍ بسنابل تتمايل بِخُيَلاء.
 تاريخ ولادتي، كان في بلدتي يُنحت على قطعة رخامٍ، تاريخَ وفاة لعجوز في البلدة المجاورة. وربّما نُحِت في غير مكان.. ربّما سطّر نجاحات لعلماء، أو أدباء. وربّما عنون خيبات أملٍ.. أو فاجعات. لكنّه على هذه القطعة بالذات كان يربط خيوط بيت عنكبوت واهنة، ضربتها يد الأيام بقبضة أتلفتها. لكن الأشدّ إيلاماً هو حين يدرك العنكبوت أن في مكانٍ ما في العالم دود قزٍّ تُعامل خيوطه برِفعةٍ ما هي إلا دليل على العنصرية المجحفة..
تلك السيدة التي كُتِب لها أن تُغادر الحياة يوم قدومي، شبيهة العنكبوت. كَدَّت وَشقيَتْ وهي تنسج بيتاً لأولادها، ثمّ ها هي أوصاله تتقطّع عند أول مفترق طرق. كنت وليدةً بريئةً بما يكفي لأجهل سبب التمييز بين خيط وآخر. ظننت أنّ خَيْط العنكبوت إذ خِيطَ على باب الغار* قد كفّر عن ذنبه، لكنّ الحقوق السليبة، مع تقدّم الزّمن، بدت لي أكثر من ذلك بكثير.. والتعيير بالأصل، أو نكرانه بديا أقبح على سطح الأرض من باطنها..
كلٌّ منّا رواية، لكنّ ليس كلاً تُكتب.. ولا كلّ ما يُكتَب يبقى.. ولا كلّ ما يبقى يُقرأ. المحظوظ من يبقى صالح أثره في سطور تحتل الرفوف الأولى والعقول الأوعى.. والخاسر الأكبر من يسكن بُغضُ فِعلِه في نفوس من يَليهِ.
 تحت الرّكام في مقبرة القرية المجاورة، استقبل الأمواتُ العجوز يسألونها عن حال من تركت. في دار العلم دون الفعل، هام طيفها يحدّث هذا عن قريبه وذاك عن ابنه.. ويأسفون سويّة على ما فات، ولم يبقَ منه سوى الرّفات. ودَّعَتْ في ذلك النّهار عالماً كان مشغولاً باستقبالي، أنا وغيري، بذراعين مفتوحتين.
جئت إلى الحياة، وبدأت روايتي بمقدّمة لطيفة. لم يكن حينها ليُسمح لي بالاقتراب من القلم، فهو حادٌّ بوصف سكان الأرض. ظننتي حينها من كوكب آخر. يطلقون على رأسٍ مبريٍّ لهدف نبيل صفة الحدّة، ثمّ يطلقون كلماتهم سهاماً لا تدري أتخطئ أو تُصيب. كنت أكتفي بالحراك يمنة ويسرة، متكلفة ابتسامة هنا وأخرى هناك. أبكي حين أجوع غذاءً، أبكي حين أجوع اهتماماً.. وأبكي الضّجر.
الكلّ نظر إليّ على أنّني بريئة. ولا يغرّنكم بياض الوصف النّاصع، فدلالة الاسم لديهم قد لا تمتّ لمعناه بصفة.. إليكم مثلاً أسماءهم.. يزايدون بها ويتباهَوْن، بينما قد لا تجد ريح الكرم عند "جواد"، أو ذرة إخلاص عند "وفاء".. لذا فإن "بريئة" في قاموسهم مرادف ل "ساذجة". لكنّني أبداً لم أكن بسذاجتهم.. بل على العكس، فمع كلّ طلوع شمس ازددت يقيناً أنّ هذه الصفة مكتسبة، لا بالفطرة.
وكما كان الفارق بيني وبينهم البياض مالئاً صحيفتي، لم أكن لأبتسم لمن لا أشعرُ تجاهه بالارتياح، أو لا أقرأُ على وجهه أماراتِ الودّ، بل تنهالُ من فمه على سمعي الديباجة المعتادة من المجاملات الخاصة بهذه المناسبة. لم أكن لأدّعي فهمَ ما لا أعي، ولا إدراكَ ما لا أفعل.. ولا فهمت حينها لِمَ يفعل بعض الناس ذلك، في حين غيرهم يُفلحون فلا يفعلون.

حنان فرحات

May 29, 2014

تقديم "في ظل فنجان قهوة" - مجموعة قصصية

رابط الكتاب: 
 في ظل فنجان قهوة
أو 
في ظل فنجان قهوة
 الكتاب على goodreads
on goodreads

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

اسمحوا لي أن أكسرَ الحدودَ المتكلّفةَ بيني وبينكم، ولْتكنْ كلماتي أقرب إلى حديث ودّيٍّ من القلب إلى القلب قدر المستطاع.

تخيّلوا معي ذلك الدّكان الخشبي الأحمر المركون في زاوية ملعب المدرسة. في ضيقه يقف رجلٌ ضخم الجثة. ثمّ تخيّلوا فتاة صغيرة تكاد تضيع في كفّيهِ، تعتاد الدخول إلى دكانه كالداخل إلى مكتب مديرٍ ما،  لِتحدّثَه. هي لا تذكر منه سوى سواد شعره الكثيفِ، وابتسامته الصادقة.

 كبرت الفتاة، وكبر البائع. هي أخذتها الحياة بعيداً عن ذاك الملعب، وعن تلك الزاوية، وعن ذاك الدكان، وهو أخذه الموت عن الحياة. لكنّ مشاغلَ الحياةِ وهمومَ الدراسةِ ولقيا الأصدقاءِ غيبتْ ما بقي من ذكراه كالخُرقة المرمية في جبّ عميق.

 وذات ليلة، زارها في منامها معاتباً.  جاء الحلم كالسيّارةِ يَمُرُّون بالجبّ ليشربوا، فيَنتشلون الخُرقة من أدناه.

حدث أن كان ذلك البائعُ العمَّ أبا علي، وحدث أن كانت تلك الطفلة أنا!

ذاك الحلم كان أوّلَ حُلُمٍ يوقظني فرحة، ثم لا يلبث أن يُبكيَني. وعتابُ العمّ أبي عليٍّ لي كان أول قطعة نثرية نشرتها منذ حوالي ثلاثِ سنوات. لكنّه قبل ذلك كان أول بسمة لي في كل فسحة. وكلماتُه الطيبةُ تلك التي لم تُقَل لتُذكر بعد أكثر من خمسة عشر عاماً، فتحت له أبواب الدّعاء كلّما ذكرته، وأسالت حبر قلمي بعد أن طال ركوده.

بعد عدّة مقالات متفرقّة، اصطفّت كلماتي بتواضعٍ، تصفُ مشهداً طبيعياً ذاتَ مساءِ صيفٍ حارّ. ثمّ ما لبثت أن انزلقت الأفكار بقلمي، فرأيتَني أحكي حكايةً لم أكن على دراية بنهايتها.   بَطَلَتُها تلك الطّفلة التي تبغض النّضوج إنّما تتصنّعُه لتبلغَ مُناها. غلبَتْ على جملِ الحكاية النقاطُ، فرأيتني أضع اثنتين هنا، وثلاثة هناك، أحسبها مساحاتٍ تنهّدتُ فيها متحسّرة على كلماتٍ لم أتقن البوح بها حينها.

عبر وسائل التواصل الاجتماعي، خرجت قصتي الأولى بعنوان "أحلامي بالرصاص" إلى أصدقائي الذين تلقّفوها على شكل أجزاء، وتعايشوا معها حتّى أن البعض وبّخني بسبب الخاتمة التي آلت إليها البطلة. كما ساعدني آخرون في لملمة الأفكار لأنسجها جزءاً ثانياً للقصة على لسان أخِ البطلة.

تَلَت قصةَ "أحلامي بالرصاص" قصةٌ أخرى بلغة أسهلَ،  تحت عنوان "حين جف القلم". ولعلّ في الأمر تناقضاً لا أفهمه، أو انحيازاً لشعبية قلم الرصاص في ظلّ حكم ديكتاتوريّ ترأسه التكنولوجيا. لكنّ الجديد في الأمر أنّ أحداث هذه الأخيرة كانت مستوحاةً من قصة حقيقية.

وبين قصّة مستوحاة من الواقع، وأخرى من صميم شخصيّتي، جاءت قصة "خمسة أيام على حدود الذاكرة" لتتقمّص شخصيّة أخرى لا تَمُتُّ إليّ بِصلِة، إذ حاولت فيها أن أبتعد عن ذاتي لأختبر قدرتي على تصوّر حالة أخرى، في مكان وزمان آخرَين، مُظهرةً الحياةَ من وجهة نظر حاملِ قضيّة.

وبعد مدّة، تسلّح قلمي بقناع الرمزية، وتصنّع الإدمان على القهوةِ، فأسقطها على كل ما مرّ أمامه في رحلته. جعل الحريةَ قهوةً، والإرادةَ قهوةً، وكذا المبادئَ والخبزَ والحياة، مُلبساً دفّة كتابي هذا عنوان القصة "في ظل فنجان قهوة".

ثمّ عدت  بعدها إلى ذاتي في قصة "فصول من زيارتي للعدم" ظن حيث رويت فيها سريعاً فصلاً فريداً من حياتي، يشترك مع ما سبق من قصص بالتعطّش إلى الحرية، إذ قُيِّدتُ بسرير المرض، عافاكم الله.

أجمل ما في هذه القصص أنّها لم تُكتب لتُقيّد بين دفّتي كتاب، وأغرب ما فيها غَيرتي عليها من التّعديل ، بالرغم من تواضعها، وحتّى لو كان التعديل من قِبَلي.  ذلك لأنّني أراها أفكاراً وليدة لحظاتٍ لا يمكن تعديلها بالعودة من الحاضر إلى الماضي.

"الشيء الذي لا يمكن التعبير عنه بكلمات، لا يمكن إدراكه إلا بالصمت"، هكذا تقول إليف شافاق في إحدى رواياتها. أمّا أنا، فأرى الكلماتِ المكتوبةَ أبلغ تعبير عن مكامن النّفس، والقراءةَ أبلغَ إدراكٍ بصمت. من هنا، وانطلاقاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من لا يشكر الناس لا يشكر الله" ، ولأن الفضل لله أولاً وآخراً، أقف محتارةً بشكر من أبدأ، إذ يسّرتم كشف الستار عن أفكاري وقوفاً عند القول بأن عقل الكاتب في قلمه.

 فللجامعة اللبنانية الدولية،( بشخص رئيسها الأستاذ عبد الرحيم مراد، مديرها الإداري الأستاذ باسم هزيمة ، مديرها الأكاديمي الدكتور أحمد فرج، الدكتور يوسف الصميلي، الأستاذ محمود فرحات، وكوادر التنظيم،) جزيلُ الشكر لتبنّيها إخراج كتابي الأول بمحتواه المتواضع إلى حضراتكم، وإدراج هذا الحفل ضمن برنامج المدينة الثقافية لهذا العام.

كما لأساتذتي، على اختلاف اختصاصاتهم في مختلف المراحل الدراسية، شكرٌ جزيلٌ لتقويم حروفي، وحثّي على تنمية الجانب الأدبي.

ولا يغيب عنّي شكر أصدقائي الذين منّ الله عليّ بهم، إذ تابعوا كلماتي، وأصرّوا على التزامي مسيرة الكتابة.

شكرٌ خاصّ لكلّ من حضر هذا الحفل من إداريين وأقارب، وأصدقاء، ومحبّين، وإخوة، وممثّلي مدارس وهيئات تعليمية.
 
إلا أن مسك الختام، شكرٌ بدأت به أوائل صفحات كتابي:
إلى الذين كانوا أول الحروف على شفتيّ ومن عطائهم استلهمت أبجديتي، إلى أبي وأمّي.

May 9, 2014

أكياس على الخاصرة



حين يصبح النوم منى العين، والموت منى النفس، وكبسولات الدواء أمر من العلقم، يكون المشوار قد شارف على  النهاية. هذا المشوار الذي طال بين ثنايا جدران أشد خسة من حراسها، وامتد بصحبة أكياس البول تتدلى على الخاصرة المقعدة، هو مشروع شهادة أسمى من أن تعلق في إطار على جدار. هذا هو حال الأسير الفلسطيني في السجون الإسرائيلية: طالب شهادة يكاد يفرغ صبره انتظاراً لحفل التخرج.
هناك، على فراش لا تزيد سماكته على خمسة سنتيمترات، يصبح النوم هو الحلم في يقظة قسرية تفرضها الآهات والأنات المخنوقة. وعلى مقاعد المقعدين، تصبح الحركة شبحاً: في  حضوره الألم، وفي غيابه العجز. وبين هذا وذاك، أكياس البول تتدلى، فيخفيها الأسرى المشلولون ريثما يأكل الآخرون ما تمن به عليهم إدارة السجن المذلة.
ومن هناك، يرسل لنا الأسطورة سامر العيساوي بينما روحه تنازع: "إن نبضات قلبي المتوترة والضعيفة تستمد صمودها منكم أيها الشعب العظيم، وإن عيني التي بدأت أفقد البصر بها تستمد النور من تضامنكم ومساندتكم لي، وإن صوتي الضعيف يأخذ قوته من صوتكم الذي يعلو على صوت السجان والجدران". سامر –المضرب عن الطعام منذ أكثر من ----- مثال بسيط عما يعانيه الأسرى داخل السجون الإسرائيلية.


 فالأسرى، البالغ عددهم 4660  أسيراً وأسيرة حسب إحصائيات متطابقة لوزارتي شؤون الأسرى في غزة ورام الله(الضفة الغربية)، يعاني ربعهم (حوالي ال 1200 أسير) من أمراض       مختلفة، وتعتبر معاناة 170 منهم مأساة حقيقية.  وتصنف حالة 25 أسيرا ما بين الإصابة والاشتباه بالإصابة بمرض السرطان فيما تؤكد الجزيرة نت معاناة 85  أسيراً من الإعاقة الجسدية أو النفسية.
وتتراوح الأمراض التي تستغل من قبل سلطات الاحتلال للضغط على الأسرى وانتزاع اعترافات متهم بين أمراض المعدة، الروماتيزم، الديسك، ضعف البصر، والأمراض الجلدية. كما تتأزم حالات أخرى بسبب الضغط والسكري والربو والفشل الكلوي والشلل النصفي والكلي.
 
وبينما تنص المادة 89 من اتفاقية جنيف الرابعة حسب المركز الحقوقي أنه يجب أن "تكون الجراية الغذائية اليومية للمعتقلين كافية من حيث كميتها ونوعيتها بحيث تكفل التوازن الصحي والطبيعي وتمنع اضطرابات النقص الغذائي ” ، تقدم وجبات غير كافية للأسرى، وغير ملائمة للمرضى الذين يعانون من السكري أو الضغط.
 بل ويستغل السجانون الأمراض كنقاط ضعف للأسرى، فيهملونهم ويماطلون في العلاج وإجراء العمليات الجراحية، ويقدمون الأكامول وكأس الماء كعلاج لكافة الأمراض. ويتم تشخيص الأمراض جميعها بالنظر بالعين من قبل طبيب عام، ثم معالجتها بالمسكنات إلى حين يعتاد الجسم عليها ويفقد مناعته تجاهها فيتم تبديلها.
وتفتقد مشافي السجون إلى الأجهزة الطبية لذوي الاحتياجات الخاصة، كالأطراف الصناعية، والنظارات الطبية، والبخاخات لمرضى الربو. كما لا يوجد غرف عزل خاصة للمصابين بالأمراض المعدية فيقيمون مع غيرهم من الأسرى، ولا سيارات نقل للمرضى إلى المشافي فينقلون مكبلين بشاحنات عديمة التهوئة، ولا غرف عمليات معقمة فيتم توليد الأسيرات وهن مكبلات من قبل طبيب عام. وقد يبدو من الطبيعي غياب كل ما ذكرت حين نعلم أن أكوام الدواء التي تقدم للأسرى تكون في بعض الأحيان منتهية الصلاحية.


قعدان- أسير مضرب عن الطعام يعلل صبره من خلف القضبان بقوله:" حسب وجهة نظري على الأقل،  فإن نبع الماء العذب يجب أن يكون دائماً في عل ومرتفعا حتى يفيض فراتا سائغا للشاربين وسعيا به لئلا يتكدر أو تصيبه الشوائب، وهذه هي فلسفة حياة الصعاب والمخاطر التي نحيا مقابل ألا نعيش بين الحفر، وهي مرتبطة أشد الارتباط بمصداقية المبدأ الذي نعتقد به والمشروع الذي نحمله".
ويأتي صبره هذا صبرا على ما وصفه فؤاد الخفش- باحث ومتخصص في شؤون الأسرى الفلسطينيين ب"حيث الموت ولا موت، والمرض ولا دواء، والآه بلا ألم ، حيث يدمن الجسد على أنواع دواء تبدل كل فترة وكأنك بحقل تجارب لمكان يديره أناس تقطر من عيونهم الخسة والخباثة والابتسامة الصفراء ابتسامة المتلذذ بآلام الآخرين سادٍ بكل ما تحمل الكلمة من معنى."
ويرتقي العديد من الأسرى بعد أسابيع قليلة من إطلاق سراحهم بسبب حالاتهم الصحية السيئة، فتكون السلطات الإسرائيلية بذلك ألقت عن عاتقها المسؤولية. فالأسير زكريا عيسى استشهد بعد 4 أشهر من إطلاق سراحه بمرض السرطان.  أما الأسير المحرر زهير لبادة، فاستشهد بعد أقل من أسبوع على تحريره بسبب الفشل الكلوي. آخرون كالشهيد عرفات جرادات وميسرة أبو حمدية ارتقوا في مشافي السجون بعد معاناة مع الإهمال الطبي.

ويبقى الأسرى عالقين في صراع بين الروح والجسد: الروح حبيسة جسد خائر القوى، والمفتاح بيد خالق هو أدرى بمقاصد الأمور. وبينما ينتظر ون الفرج، يتدفق الهواء رغماً عنه إلى الرئتين، ثم يُزفر إلى الخارج حاملاً ما يستطيع من الوهن، إلى أن يكتب الله أمره.