May 29, 2014

تقديم "في ظل فنجان قهوة" - مجموعة قصصية

رابط الكتاب: 
 في ظل فنجان قهوة
أو 
في ظل فنجان قهوة
 الكتاب على goodreads
on goodreads

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

اسمحوا لي أن أكسرَ الحدودَ المتكلّفةَ بيني وبينكم، ولْتكنْ كلماتي أقرب إلى حديث ودّيٍّ من القلب إلى القلب قدر المستطاع.

تخيّلوا معي ذلك الدّكان الخشبي الأحمر المركون في زاوية ملعب المدرسة. في ضيقه يقف رجلٌ ضخم الجثة. ثمّ تخيّلوا فتاة صغيرة تكاد تضيع في كفّيهِ، تعتاد الدخول إلى دكانه كالداخل إلى مكتب مديرٍ ما،  لِتحدّثَه. هي لا تذكر منه سوى سواد شعره الكثيفِ، وابتسامته الصادقة.

 كبرت الفتاة، وكبر البائع. هي أخذتها الحياة بعيداً عن ذاك الملعب، وعن تلك الزاوية، وعن ذاك الدكان، وهو أخذه الموت عن الحياة. لكنّ مشاغلَ الحياةِ وهمومَ الدراسةِ ولقيا الأصدقاءِ غيبتْ ما بقي من ذكراه كالخُرقة المرمية في جبّ عميق.

 وذات ليلة، زارها في منامها معاتباً.  جاء الحلم كالسيّارةِ يَمُرُّون بالجبّ ليشربوا، فيَنتشلون الخُرقة من أدناه.

حدث أن كان ذلك البائعُ العمَّ أبا علي، وحدث أن كانت تلك الطفلة أنا!

ذاك الحلم كان أوّلَ حُلُمٍ يوقظني فرحة، ثم لا يلبث أن يُبكيَني. وعتابُ العمّ أبي عليٍّ لي كان أول قطعة نثرية نشرتها منذ حوالي ثلاثِ سنوات. لكنّه قبل ذلك كان أول بسمة لي في كل فسحة. وكلماتُه الطيبةُ تلك التي لم تُقَل لتُذكر بعد أكثر من خمسة عشر عاماً، فتحت له أبواب الدّعاء كلّما ذكرته، وأسالت حبر قلمي بعد أن طال ركوده.

بعد عدّة مقالات متفرقّة، اصطفّت كلماتي بتواضعٍ، تصفُ مشهداً طبيعياً ذاتَ مساءِ صيفٍ حارّ. ثمّ ما لبثت أن انزلقت الأفكار بقلمي، فرأيتَني أحكي حكايةً لم أكن على دراية بنهايتها.   بَطَلَتُها تلك الطّفلة التي تبغض النّضوج إنّما تتصنّعُه لتبلغَ مُناها. غلبَتْ على جملِ الحكاية النقاطُ، فرأيتني أضع اثنتين هنا، وثلاثة هناك، أحسبها مساحاتٍ تنهّدتُ فيها متحسّرة على كلماتٍ لم أتقن البوح بها حينها.

عبر وسائل التواصل الاجتماعي، خرجت قصتي الأولى بعنوان "أحلامي بالرصاص" إلى أصدقائي الذين تلقّفوها على شكل أجزاء، وتعايشوا معها حتّى أن البعض وبّخني بسبب الخاتمة التي آلت إليها البطلة. كما ساعدني آخرون في لملمة الأفكار لأنسجها جزءاً ثانياً للقصة على لسان أخِ البطلة.

تَلَت قصةَ "أحلامي بالرصاص" قصةٌ أخرى بلغة أسهلَ،  تحت عنوان "حين جف القلم". ولعلّ في الأمر تناقضاً لا أفهمه، أو انحيازاً لشعبية قلم الرصاص في ظلّ حكم ديكتاتوريّ ترأسه التكنولوجيا. لكنّ الجديد في الأمر أنّ أحداث هذه الأخيرة كانت مستوحاةً من قصة حقيقية.

وبين قصّة مستوحاة من الواقع، وأخرى من صميم شخصيّتي، جاءت قصة "خمسة أيام على حدود الذاكرة" لتتقمّص شخصيّة أخرى لا تَمُتُّ إليّ بِصلِة، إذ حاولت فيها أن أبتعد عن ذاتي لأختبر قدرتي على تصوّر حالة أخرى، في مكان وزمان آخرَين، مُظهرةً الحياةَ من وجهة نظر حاملِ قضيّة.

وبعد مدّة، تسلّح قلمي بقناع الرمزية، وتصنّع الإدمان على القهوةِ، فأسقطها على كل ما مرّ أمامه في رحلته. جعل الحريةَ قهوةً، والإرادةَ قهوةً، وكذا المبادئَ والخبزَ والحياة، مُلبساً دفّة كتابي هذا عنوان القصة "في ظل فنجان قهوة".

ثمّ عدت  بعدها إلى ذاتي في قصة "فصول من زيارتي للعدم" ظن حيث رويت فيها سريعاً فصلاً فريداً من حياتي، يشترك مع ما سبق من قصص بالتعطّش إلى الحرية، إذ قُيِّدتُ بسرير المرض، عافاكم الله.

أجمل ما في هذه القصص أنّها لم تُكتب لتُقيّد بين دفّتي كتاب، وأغرب ما فيها غَيرتي عليها من التّعديل ، بالرغم من تواضعها، وحتّى لو كان التعديل من قِبَلي.  ذلك لأنّني أراها أفكاراً وليدة لحظاتٍ لا يمكن تعديلها بالعودة من الحاضر إلى الماضي.

"الشيء الذي لا يمكن التعبير عنه بكلمات، لا يمكن إدراكه إلا بالصمت"، هكذا تقول إليف شافاق في إحدى رواياتها. أمّا أنا، فأرى الكلماتِ المكتوبةَ أبلغ تعبير عن مكامن النّفس، والقراءةَ أبلغَ إدراكٍ بصمت. من هنا، وانطلاقاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من لا يشكر الناس لا يشكر الله" ، ولأن الفضل لله أولاً وآخراً، أقف محتارةً بشكر من أبدأ، إذ يسّرتم كشف الستار عن أفكاري وقوفاً عند القول بأن عقل الكاتب في قلمه.

 فللجامعة اللبنانية الدولية،( بشخص رئيسها الأستاذ عبد الرحيم مراد، مديرها الإداري الأستاذ باسم هزيمة ، مديرها الأكاديمي الدكتور أحمد فرج، الدكتور يوسف الصميلي، الأستاذ محمود فرحات، وكوادر التنظيم،) جزيلُ الشكر لتبنّيها إخراج كتابي الأول بمحتواه المتواضع إلى حضراتكم، وإدراج هذا الحفل ضمن برنامج المدينة الثقافية لهذا العام.

كما لأساتذتي، على اختلاف اختصاصاتهم في مختلف المراحل الدراسية، شكرٌ جزيلٌ لتقويم حروفي، وحثّي على تنمية الجانب الأدبي.

ولا يغيب عنّي شكر أصدقائي الذين منّ الله عليّ بهم، إذ تابعوا كلماتي، وأصرّوا على التزامي مسيرة الكتابة.

شكرٌ خاصّ لكلّ من حضر هذا الحفل من إداريين وأقارب، وأصدقاء، ومحبّين، وإخوة، وممثّلي مدارس وهيئات تعليمية.
 
إلا أن مسك الختام، شكرٌ بدأت به أوائل صفحات كتابي:
إلى الذين كانوا أول الحروف على شفتيّ ومن عطائهم استلهمت أبجديتي، إلى أبي وأمّي.

May 9, 2014

أكياس على الخاصرة



حين يصبح النوم منى العين، والموت منى النفس، وكبسولات الدواء أمر من العلقم، يكون المشوار قد شارف على  النهاية. هذا المشوار الذي طال بين ثنايا جدران أشد خسة من حراسها، وامتد بصحبة أكياس البول تتدلى على الخاصرة المقعدة، هو مشروع شهادة أسمى من أن تعلق في إطار على جدار. هذا هو حال الأسير الفلسطيني في السجون الإسرائيلية: طالب شهادة يكاد يفرغ صبره انتظاراً لحفل التخرج.
هناك، على فراش لا تزيد سماكته على خمسة سنتيمترات، يصبح النوم هو الحلم في يقظة قسرية تفرضها الآهات والأنات المخنوقة. وعلى مقاعد المقعدين، تصبح الحركة شبحاً: في  حضوره الألم، وفي غيابه العجز. وبين هذا وذاك، أكياس البول تتدلى، فيخفيها الأسرى المشلولون ريثما يأكل الآخرون ما تمن به عليهم إدارة السجن المذلة.
ومن هناك، يرسل لنا الأسطورة سامر العيساوي بينما روحه تنازع: "إن نبضات قلبي المتوترة والضعيفة تستمد صمودها منكم أيها الشعب العظيم، وإن عيني التي بدأت أفقد البصر بها تستمد النور من تضامنكم ومساندتكم لي، وإن صوتي الضعيف يأخذ قوته من صوتكم الذي يعلو على صوت السجان والجدران". سامر –المضرب عن الطعام منذ أكثر من ----- مثال بسيط عما يعانيه الأسرى داخل السجون الإسرائيلية.


 فالأسرى، البالغ عددهم 4660  أسيراً وأسيرة حسب إحصائيات متطابقة لوزارتي شؤون الأسرى في غزة ورام الله(الضفة الغربية)، يعاني ربعهم (حوالي ال 1200 أسير) من أمراض       مختلفة، وتعتبر معاناة 170 منهم مأساة حقيقية.  وتصنف حالة 25 أسيرا ما بين الإصابة والاشتباه بالإصابة بمرض السرطان فيما تؤكد الجزيرة نت معاناة 85  أسيراً من الإعاقة الجسدية أو النفسية.
وتتراوح الأمراض التي تستغل من قبل سلطات الاحتلال للضغط على الأسرى وانتزاع اعترافات متهم بين أمراض المعدة، الروماتيزم، الديسك، ضعف البصر، والأمراض الجلدية. كما تتأزم حالات أخرى بسبب الضغط والسكري والربو والفشل الكلوي والشلل النصفي والكلي.
 
وبينما تنص المادة 89 من اتفاقية جنيف الرابعة حسب المركز الحقوقي أنه يجب أن "تكون الجراية الغذائية اليومية للمعتقلين كافية من حيث كميتها ونوعيتها بحيث تكفل التوازن الصحي والطبيعي وتمنع اضطرابات النقص الغذائي ” ، تقدم وجبات غير كافية للأسرى، وغير ملائمة للمرضى الذين يعانون من السكري أو الضغط.
 بل ويستغل السجانون الأمراض كنقاط ضعف للأسرى، فيهملونهم ويماطلون في العلاج وإجراء العمليات الجراحية، ويقدمون الأكامول وكأس الماء كعلاج لكافة الأمراض. ويتم تشخيص الأمراض جميعها بالنظر بالعين من قبل طبيب عام، ثم معالجتها بالمسكنات إلى حين يعتاد الجسم عليها ويفقد مناعته تجاهها فيتم تبديلها.
وتفتقد مشافي السجون إلى الأجهزة الطبية لذوي الاحتياجات الخاصة، كالأطراف الصناعية، والنظارات الطبية، والبخاخات لمرضى الربو. كما لا يوجد غرف عزل خاصة للمصابين بالأمراض المعدية فيقيمون مع غيرهم من الأسرى، ولا سيارات نقل للمرضى إلى المشافي فينقلون مكبلين بشاحنات عديمة التهوئة، ولا غرف عمليات معقمة فيتم توليد الأسيرات وهن مكبلات من قبل طبيب عام. وقد يبدو من الطبيعي غياب كل ما ذكرت حين نعلم أن أكوام الدواء التي تقدم للأسرى تكون في بعض الأحيان منتهية الصلاحية.


قعدان- أسير مضرب عن الطعام يعلل صبره من خلف القضبان بقوله:" حسب وجهة نظري على الأقل،  فإن نبع الماء العذب يجب أن يكون دائماً في عل ومرتفعا حتى يفيض فراتا سائغا للشاربين وسعيا به لئلا يتكدر أو تصيبه الشوائب، وهذه هي فلسفة حياة الصعاب والمخاطر التي نحيا مقابل ألا نعيش بين الحفر، وهي مرتبطة أشد الارتباط بمصداقية المبدأ الذي نعتقد به والمشروع الذي نحمله".
ويأتي صبره هذا صبرا على ما وصفه فؤاد الخفش- باحث ومتخصص في شؤون الأسرى الفلسطينيين ب"حيث الموت ولا موت، والمرض ولا دواء، والآه بلا ألم ، حيث يدمن الجسد على أنواع دواء تبدل كل فترة وكأنك بحقل تجارب لمكان يديره أناس تقطر من عيونهم الخسة والخباثة والابتسامة الصفراء ابتسامة المتلذذ بآلام الآخرين سادٍ بكل ما تحمل الكلمة من معنى."
ويرتقي العديد من الأسرى بعد أسابيع قليلة من إطلاق سراحهم بسبب حالاتهم الصحية السيئة، فتكون السلطات الإسرائيلية بذلك ألقت عن عاتقها المسؤولية. فالأسير زكريا عيسى استشهد بعد 4 أشهر من إطلاق سراحه بمرض السرطان.  أما الأسير المحرر زهير لبادة، فاستشهد بعد أقل من أسبوع على تحريره بسبب الفشل الكلوي. آخرون كالشهيد عرفات جرادات وميسرة أبو حمدية ارتقوا في مشافي السجون بعد معاناة مع الإهمال الطبي.

ويبقى الأسرى عالقين في صراع بين الروح والجسد: الروح حبيسة جسد خائر القوى، والمفتاح بيد خالق هو أدرى بمقاصد الأمور. وبينما ينتظر ون الفرج، يتدفق الهواء رغماً عنه إلى الرئتين، ثم يُزفر إلى الخارج حاملاً ما يستطيع من الوهن، إلى أن يكتب الله أمره.

لِم؟


 ولأنّ يوماً ما سيأتي، وسيتوقف فيه هذا القلم عن الكتابة..

 آثرتُ أن أجعل خطّ قلمي بائناً..

 فمن الجميل أن نشارك العالم من حولنا أفكارَنا وخواطرنا..ومشاعرنا في لحظات قد لا تتكرّر.. أو حتى قصصاً من نسج خيالنا..

ومن الجميل أيضاً أن نشارك الآخرين رؤيتنا لقضية، أو لِقيمة، أو لحدث..

ولكنّ الأجمل، أن نجد من يتابعنا، ويوجّهنا، ويصوّب أخطائنا،.. أو حتى يكتفي بنظرة من حين لآخر..



حنان فرحات

8-1-2013


غربة



غريب ما وصل إليه حالنا،
 ترانا إذا دخلنا بيت هذا وذاك نشم رائحة الغربة والبعد والتنافر.. 
نبحث عن شيء ما..ولا نجده ..فلا هو منزوٍ خلف ستائر القلوب ..ولا هو قابع في زوايا الافئدة.. 
ننظر في العيون فإذا بها جافة خالية من تلك النظرات الصادقة.. 
وإذ به الحب متنكرا بأقنعة المصالح والأنانية...

حنان فرحات


عهد الجيب الفارغ

كتبت في أيلول 2013 لموقع الأسرة الفلسطينية


"لا معيل لنا سوى الله"، تقول أم أحمد-43 عاما من سكان مدينة رفح..هي زيتونة فلسطينية أخرى، وقصة أخرى. فأم أحمد تقطن وأسرتها المكونة من 7 أشخاص منزلاً هو أشبه بالثلاجة شتاءً، وبالموقد صيفاً!

 "المشكلة ليست في البيت وحده بل في من يسكن بهذا البيت"، فالشيكات التي تستلمها أم أحمد كل 3 أشهر من وزارة الشؤون الإجتماعية، لا تكفي لإجراء الفحوصات والتحاليل الدورية لابنها-17 عاماَ المصاب بالتهابات في الكلى، ولا لشراء الأدوية اللازمة لابنتها شيماء -15 عاماَ المصابة بالصرع منذ صغرها. وتبقى إصابة زوجها في قدمه في الانتفاضة الأولى، وبارتجاج في المخ نتيجة سقوطه من مكان مرتفع، بالإضافة إلى معاناته من حالة انفصام في الشخصية عائقاَ أمام تحقيق حلم ابنها الصغير في امتلاك دراجة.

ربما يعود سبب فقر أسرة أم أحمد إلى فقدان المعيل..إلا أن هذا بالتأكيد ليس السبب الذي دفع رضوان-45 عاماَ من سكان خانيونس إلى الاستدانة من المحلّات لسدّ رمق أطفاله.  ورغم أنه يرى العمل في البناء-مؤخراَ- صعباَ، خاصّة بعد أن أمضى سنوات مكبّلاَ بالبطالة، إلا أنه يواجه أوجاعه وتعبه  بالرضا، فرحاَ بقدرته على تأمين مستلزمات أسرته، ومغادرة عهد "الجيب الفارغ". وإن كانت طفرة العمل البسيطة  قد حسّنت من حال "رضوان"، فهي للأسف لم تطل سوى 30 ألفاَ من إجمالي 110 آلاف من عمال قطاع غزة.

فالمعطيات تشير إلى أن حرب غزة لعبت دوراَ مهمّاَ في تدمير القطاع الزراعي، وساهمت في تطوير سياسات اقتصادية إسرائيلية شلت حركة دخول المواد الأولية الضرورية للإنتاج، معرقلةَ عمليتي الإستيراد والتصدير. وبهذا، ارتفعت نسبة البطالة في قطاع غزة إلى 45%  لتصبح الأولى عالمياَ، وتنحدر ب 52% من الأسر الفلسطينية إلى ما دون خط الفقر.

وفي دراسة أجريت على عامل فلسطيني فقد عمله نتيجة للحصار الإسرائيلي، تبين أنه لم يعد يأبه لمشاعر الآخرين. وأنه إن كان قادرا على البدء بعلاقات صداقة، فإنه سرعان ما سيفقدها بسبب سرعة غضبه وإلقائه باللوم على الجميع، بالإضافة إلى إيجاده تبريرات لسلوكياته الإنفعالية.

ويوماَ بعد يوم، تسوق البطالة العمّال إلى مستنقعات من الضياع والتشتت، حارمةَ إياهم من التمتع بالأمن الإجتماعي، فيقف معيلوا الأسر فاقدي الحيلة أمامها. أما الأسرة الفلسطينية فتقف ثاغرة الفاه، تستشرف مستقبلاَ لأبنائها، يتلاشى نوره في الحاضر.


حنان فرحات 

لا شيء كالوطن

كتبت في 30 أيلول 2013 لموقع الأسرة الفلسطينية


"مشردين عن الوطن
مبعدين عن أهالينا في غزة... عن أملاكنا في جنين
واحنا أبدا مش ناسيين... خير بلادنا ولا نايمين
وين المحبة؟ بدنا ندور عالمحبة وندورعالصداقة وعالإنسانية والأخلاق..
إذا ما مشيناش إيدينا في إيدين بعض وقلبي على قلبك، مش رح نرجع.."

قالها عزمي حماد-مخيم برج البراجنة-، وقلبه يعتصر أسى .. "عزمي"  تلخصت مطالبه في بعض القيم الإنسانية التي إن وجدت، لن يبقى له أي مطلب آخر، إذ أن الضمير الحي سيكفل حقه في العيش الكريم حتى مع كونه "لاجئاً" في لبنان.

الحق في العيش الكريم - جنوباً

الفلسطيني نظام موسى، شهيد لقمة العيش، هو قصة نوع آخر من البحث عن العيش الكريم. فنظام لم يبحث عن قيم، ولم يكن ليتجرع مرارة السؤال، فالتقط انفاسه الأخيرة في مكب النفايات في صيدا حيث كان يقضي معظم أوقاته في جمع المعادن والبلاستيك لتأمين قوت يومه. قضى نظام شهيداً بعد سقوط صخرة على رأسه نتيجة انهيار الجزء الغربي من المكب، ونقل جثة هامدة إلى مستشفى الهمشري في صيدا.

الحق في الموت الكريم - شمالاً

«اللهم لا تضيق علينا في القبر، كما ضاقت علينا بيوتنا في الدنيا»، هي العبارة التي كان يرددها أبو محمد السبعيني - مخيم نهر البارد -  قبل وفاته. أبو محمد، معاناة ذات عنوان آخر، تمثّلت في البحث عن الموت الكريم لا العيش الكريم.. فأبو محمد الذي لم يهنأ بالحياة الكريمة، حيث أمضاها على أبواب المؤسسات الدولية في محاولة لتأمين لقمة العيش، كتب له أن يدفن على باب المقبرة بسبب اكتظاظ هذه الأخيرة!  فهو لا أخذ حقه في سعة العيش، ولا في سعة الموت، ولم يبق له إلا الأمل في سعة الجنة...

إحصاءات الأنروا

وبين معاناة البحث عن اللقمة، ومعاناة البحث عن القبر، تأتي الأرقام والنظريات لتبرر وتعلل، وتحاول رسم خطوط هي أشبه بخيوط تترنّح باللاجئ بين الحياة والموت. وفي هذه المساحة الضيقة، يعاني 31% من اللاجئون بحسب إحصائية الأنروا من أمراض مزمنة. وبحسب إحصاء آخر، لا يستطيع أكثر من 60% من اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات تامين الاحتياجات الغذائية لأسرهم.

وفي هذا السياق، ترى هدى سمرا، مديرة قسم الإعلام في وكالة الامم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى "الأنروا" أن ثلاثة أسباب أساسية تؤثر سلباً على صحة الفلسطينيين في المخيمات وهي:
-ظروف السكن غير صحية
-الفقر المدقع
-العامل النفسي-الإحباط واليأس من الوصول إلى مستقبل أفضل.

نقدم ما نستطيع من مساعدات، ولكن...

وتقول هدى: "الأونروا تقدم ما تستطيع من مساعدات، ولكن عندما يتمكن اللاجئ من العمل ويكون لديه مدخول فذلك يخفف من الفقر. تخيلوا أن هناك عائلات مكونة من 5 أفراد تعيش بأقل من 100 دولار شهرياً!".

ولا يكفي اللاجئ التضييق في ظروف العمل وحق التملك التي تدفع به إلى ما دون مستوى الفقر، فتضيق به الغرفة التي يقطنها في أي من المخيمات، حيث لا تدخل أشعة الشمس معظم البيوت، وترتفع الرطوبة، وتنتشر الامراض الجلدية والتنفسية والربو.
وهكذا، يبقى في سباق مع نفسه للوصول إلى تلك الامنية ، التي يتقاسمها مع إخوته اللاجئين جنوباً وشمالاً، وإن كانت لدى كلّ منهم تحت مسمّى مختلف،..
"القيم" و"العيش الكريم" و"الموت الكريم".. لا يهم.. فالواقع يبقى كأساً مرة.. كأس اللجوء و"التشرد عن الوطن".. ولا شيء كالوطن..

حنان فرحات