Apr 29, 2013

أكلت ولدي -قصة مستوحاة من الواقع

ملاحظة: هذه القصّة مستوحاة من حادثة وقعت منذ ما يقارب السنتين بين سوريا ولبنان*
____________________________________________________


اصطفينا، سبعةً، مرتجفين..محاطين بالخوف والهلع، نتحضر  لنشم رائحة الموت ببطء عقيم.. لكن الآتي كان أفظع بكثير.. كنا ننتظر شرف نيل شهادة، فحظينا بمسرحية ثلاثية الأبعاد: لأصحاب القلوب القوية، وللبالغين فقط.
كنا، السبعة، تحت الثامنة عشر. لكن الضيوف أصروا على أن نلعب دور الحضور.
منذ لحظات، طرقوا الباب بعنف...
ولأن الوالد خرج من قبل روحاً، وعاد ذكرى محمولة على نعش، قمت، أكبرهم، أفتح.. وليتني لم أفعل.
منذ لحظات، طرقوا الباب بعنف...
ولأن الراحل سند الظهر.. ولأن السند ترك الظهر مقصوماً وغادر.. جاء من يطرق على الظهر ويغرز فيه الصورة تلو الصورة..
أتراه لو لم يرحل، لم يكن الباب ليُطرق؟ أم أنه كان سيصطف إلى جانب الحضور؟
 أتراه كان سيحتمل المشهد؟ أم أنني فقط من يطأطئ رأسه عند "المشاهد العنيفة"؟
اصطفينا، نحن السبعة، أشباحاً خائفة بدل أن تكون مخيفة.. يلوح الذعر على مقلتيّ كلّ منا.. أصغرنا رضيع ملقى على الأرض، لم يبلغ أسبوعه الثالث.. هو أكثرنا يتماً، وأكثرنا نقاءً، وأقلنا خوفاً، وأقصرنا عمراً..
أخذوا ما بقي من والدينا، ومثلوا فيه المسرحية..
أتحرك لأقطع المشهد وأشتت الأبطال، فتمتد الأيدي إلي تكبلني وتثبتني.. أصرخ، فتختلط صرخاتي بصرخات الممثلين وأشقائي –الحضور .. أتوسل أن يتركوا يدي لأضم رأسي وأخفي عار عجزي.. لا أريد أن أقطع المشهد بعد الآن.. ولا أن أحضن إخوتي، أحجبهم عما يحصل.. بل أن أدفن نفسي حياً، أخفي ذلّي..
انتهى المشهد الأول.. وتغسلت الشاشة بالدّموع..
فاصل صغير أخذناه، نتحسس حناجرنا إن كانت ما تزال في مكانها بعد الشهقات والصرخات.. ثم عدنا.
أخذوا أختي التي تصغرني بقليل واقتادوها ترشدهم إلى المطبخ..
انتظرت صراخها.. أورائحة دماء.. لكن أيّاً لم يأتِ..
ومرت الدقائق ثقالاً، نريد لها الموت بأهون الطرق.. فالمرّ هو الموت، والأشنع هنا: الوسيلة..
لكنّها لم تمت..
بل عادت، والصدمة على محياها،.. في يديها قدر كبير من الماء المغلي..
المشهد هذا كان سريعاً، ارتقى فيه الرضيع مسلوقاً..
 أم فاقدة الزوج، مسلوبة الشرف، "مسلوقة الابن"، تصرخ.. يشق صوتها سكوننا.. مذهولون، نحن،  من الوحشية، مشفقون عليها.. حتى أننا نسينا أن الرضيع هذا كان لأيام أخانا..
صرخت حتى تعب الصراخ منها.. ولم تتعب.. بكت حتى جفت مدامعها،.. ولم تتعب..
تركوها تلطم نفسها وتضرب، بعد أن استحال عليها انتشاله.. تركوها في الفاصل الثاني تغص برؤية شطر من روحها، دون قبلة أخيرة، تهرول ثم تطير...
غصّينا ونحن نبلع مشهداً آخر..
كنا قد اكتفينا، وظننا أنهم اكتفوا.. صرخت الصغيرات أن اتركونا،.. ظناً منهن أن الوحوش الكاسرة انتهت من الوليمة.. لكن الوحوش كانت قد أنهت لتوّها المقبّلات..
بدت على الممثلين الرحمة.. أخرجوا الطفل، ذائباً لحمه، وقربوه من أمي تشمه وتقبله وتودعه،. لفّها الصمت..
عانقته بنظراتها، خائفة من أن تؤلم شفتاها جسداً لا روح فيه.. ثم شيعته بهزات من رأسها قبل أن تبدأ فصول المشهد الثالث..
قربوه مرة أخرى، قالت خذوه.. أبعدوه عني،.. لكنهم أصروا..
أصرّوا، أن يتمتعوا بلآلئ عينيها تنهمر بغزارة..
قالوا: كُلي منه!
"نعم؟؟؟!!"
أعادوا: "كلي منه!!"
ارتعبت.. هزت رأسها وانتفضت.. لوت عنقها ورفضت.. ضحكت..!
أتراهم جنّوا؟ يضحكون سُكراً، وأضحك هلعاً! أحسّ باقتراب موعد التصفيق.. لا يمكن أن تكون للمسرحية مفاصل هزلية أخرى..
أعادوا الأوامر.. وعادت تنتفض.. كالأرض تلفظ من رحمها الحمم..
الخمسة..
أصبحوا خمسة بجانبي،.. مصطفين  كالألف.. لا يجرؤ أحدنا على التنفس.. خائفون  من اللحظات الباقية، غير مدركين أن للرحيل طعماً آخر بعد أن يسبقنا الأحبة..
 غير مدركين أن الركام شمسُ الغد، والدخان ندى الصباح..
قالوا: "كلي منه!"  فأبَت..
وإذ بحدًّ كان يقطع الخضار البارحة، يجتاز مغصوباً رقبة الصغرى فينا.. فهوى جسمها، بجانبه رأسها متدلياً..
لا أدري لم حدّقت فيها.. ربما لأنني أحسست بالسكين يعبرني أنا لا هي.. ينفر منها الدم غاضباً، فيغطي ثغرها المبتسم وسط وجهها الهلع..
لم تتحرك أمي.. كأنها جسد متيبّس لا حياة فيه.. وكأنها سئمت من اللعبة التي قُطِعت، فلم تأبه بقطعها..
قالوا: "كلي منهّ"..
قالت:"لا!"
رفضت أن تأكل من ثمرها.. فقطفوا الغلة رويداً رويداً.. يتفحصونها.. ثم يدفنونها بوحشية قريباً من الجذور..
اقتربوا من الثمرة الثالثة الهزيلة.. فتشبثت بالغصن، لا تريد أن تهوي عنه..  لكن السكين ذاته هوى بسرعة خاطفة عليها هي الأخرى..
تمددت بسكون قرب أختها تواسيها، وتؤنسها..
سواد عينيها يحدق في وجه أمي.. وأمي صامدة شامخة.. تأبى أن تأكل مما أنجبت..
والثمن بدأ يرتفع.. فثلاث من سبع، كَسرٌ يقارب النصف.. إنما لم ينصف أمّاً في كسر إرادتها..
سمعنا الكلمات ذاتها على مدار دقائق من الجحيم.. "كلي" و "لا".. حتى سلّمنا بمصيرنا.. فعقدنا وتوكلنا..
وتقدم المقدام الصغير إلى الساحة، مقدّماً عنقه ليلحق بتوأمه، موقناً أنما هي زفرات قليلة تلك المؤلمة، ثم يطير.. وهكذا صار.. فطار..
وبمغادرته، كانوا ثلاثة من غادروا، فأصبحنا ثلاثة من بقوا..  وبلغنا عتبة عنوان جديد لمجزرة راحت ضحيتها عائلة بأسرها..
تنهدت وأنانيتي تحدثني أن أتقدم لآستلم شهادتي فوراً وأوفر بعضاً من العناء..فتحت فمي لأطلب استعجال دوري.. وارتعبت!
صرخت أمي "لا"ءها ..لكن بنكهة أخرى أمرّ..  أمي، تلك الصلبة الشامخة تنحني.. أخفضت رأسها ظناَ منها أن إصرارها كان هدراً لحقوقنا.. و أنها إن فرطت ببعضنا، فلن تفرط في الكل..
انحنت..
أغمضت عينيها.. فرأت الأحمر والأسود ممزوجين بصرخاتنا.. صرخنا ال"لا" عنها .. لكن عنادها أصمّ أذنيها..
وفعلتها..
..
أُسدلت الستارة..
إنّما لم يصفق من بقي من الحضور..
ثم فتحت الستارة..
وجهان شاحبان ميّتان، وأنا.. مصطفون، إنما بطريقة ألطف من ذي قبل، على أسرّة في غرفة أعتقد أنها في مستشفى..
لا نعرف أين أمّنا.. لكن صوتها يصل بوضوح من غرفة قريبة..
عرفناها من حرقة في صوتها تتناهى إلى مسامعنا:
:"أكلت ولدي.. أكلت ولدي"..

Apr 19, 2013

مشاعر خاسرة



كنت أظنني سأذرف الدموع إن خسرت،.. "سأقاطع الطعام!" قلت، إن خسرت.. سأمنع عيني عن النظر في عيون الأصدقاء..وأعلن الحداد.

لكنني ها أنا ذا خاسرة!

خاسرة بمفهوم أرقام، وُضعت حسب معاييرتختلف من شخص لآخر اختلاف الأبيض عن الأسود.

فركت عيني لتبكيا، دون جدوى..

لم أفقد الشهية.. ولم أخجل من إعلان النتيجة.

ظننت أنني سأُرمق بنظرات السخرية، وأخسر ثقة من حولي بي.. لكن على ما يبدو، بالغت قليلاً.

ليست كل خسارة خسارة.

فهناك خسارات ندرك فيها أن التربيتة المواسية على الكتف لها قشعريرتها الخاصة،..

وأن التصفيق من صديق أقيم من مركز وجائزة،..

 وأن كلمة "مبارك" وتهنئة بالأداء الجيد، حتى بعد الخسارة، كافية..

مشاعري الآن ليست مشاعر خاسرة.. فليس كل من كان سيشاطرني فرحتي بالفوز شاطرني خسارتي.

كنت أدرك أن لي أصدقاء رائعين.. لكن خسارتي هذه كانت رسالة لأحافظ على هؤلاء.. ففيهم تصبح الخسارة فوزاً، ومن دونهم لا طعم للفوز.

شكرا جزيلاً لكل من حثّني على المشاركة، ولكل من رافقني على مدى أيام بالاهتمام والتشجيع..

شكراً لكل من ربت على كتفي، أو زجر دموعي، ولكل من جرب معي الكوبين والخيط من أساتذة وأصدقاء في الصفوف والمكتبات.

شكراً لكل من أخبرني طرفة رفعت من معنوياتي في حين كانت على وشك الانخفاض.

شكراً لكل من فاز وتركني في خانة الخاسرين في المباراة، الرابحين بضع دروس في الحياة.

كوبان وخيط

أحمل إليكم اليومَ بقايا من ذكرياتكم: كوبان وخيط.
لا أدري من أين أتينا بتلك الفكرة.. جئت وأخي بكوبين كرتونيين وخيط، ثقبنا قعرهما، ثم ربطناهما بخيط صوفي طويل. ركض إلى الغرفة الأخرى وناداني، فانساب صوته على طول الخيط. هذا الخيط نقل دفء الصوت فقط، وحجب لغة الجسد والعيون، إلا أنه قرب المسافة بين غرفة الجلوس والمطبخ.
قبل الكوبين والخيط، كانت الرسالة. تلاها شريط الكاسيت الشبيه بالرسالة الصوتية. هذه الرسائل لطالما حملت أغاني الصغار لوالدهم المسافر، ودعواتٍ بالتوفيق لإبن حُجب عن النظر، إنما لم يحجب عن القلب.
قبل البريد كان الحمام، ثم توالت السنوات إلى أن وصلنا زمن الكلام بالمجّان. وسائل التواصل كانت كتابية، أضحت سمعية ثم أمست سمعية وبصرية في آن. كانت وسائلَ لتعزيز التواصل الإجتماعي، فباتت، بحسب الدراسات، للإكتئاب عنوان.
أذكر أن مدرسي مادةِ التربيةِ الوطنية أرّقوا أعيننا بتعريف الإنسانِ على أنه كائن إجتماعي، تربطه المشاعر الإنسانية بمن حوله. كما لا أنسى تلك الصفحة من جهة اليمين من الكتاب، التي توسَطَتها صورة موظفٍ يستقبل سيدةً  بابتسامةٍ، في إشارة منه إلى أن الابتسامة ركيزة أساسية في التعامل مع الآخرين ( لا أخفيكم سراً، نحن الطلاب حينها شككنا في نوايا الموظف).
ما كان مني إلا أن بحثت عن حساب أستاذي على إحدى الشبكات الاجتماعية، وأضفته. وبعد السلام والكلام، سألته، كما أسألكم: هل أصبح من السهل الإستعاضة بنقطتين فوق بعضهما بجانبهما قوس عن الابتسامة؟؟ إن كان نعم، فلنبك على الشاشات إذا ولنوفر الدموع!
هو ذاته الأستاذ الذي عرفنا على مفهوم القرية، إذ قال إنها مجموعة أفراد يتشاركون الأفراح والأحزان، وتربطهم باقة من القيم المجتمعية السامية.  لكننا اليوم نرى العالم الواسع منكمشاً، قريةً صغيرةً كبيرة، يصل فيها صدى الضحكة من أقصى الأرض إلى أدناها في ثوان. قريةٌ أقرب إلى مجتمع السنافر. ففيها فرحانُ وغضبانُ ومخترع.. وفيها رسامُ وذكيُ وحكيمُ وأكولُ... إلى ما هنالك من أصناف الناس. 
فيها نعيش هنا وهناك في آن: نأكل هنا ونعمل هناك، نعيش هنا ونحب هناك، نتنفس هنا ونزفر همومنا هناك. وبينما نصارع للبقاء، رمينا على أكتافنا معطفاً سميكاً يكاد يحجب عن إنسانيتنا وعواطفِنا دفء العناق، وسحر البسمة، وقشعريرة المصافحة.
مذ ذاك الوقت، ونحن نؤرخ أيام حياتنا على صفحات حساب إلكتروني، عوضاً عن روزنامة اعتدنا أن نقطف من أوراقها ورقة كلما قُطف من عمرنا يوم. ننشر فيه نجاحاتنا وإخفاقاتنا، أفراحنا وأتراحنا. حتى مواليدُنا والوفيات ننشرها فيه، لدرجةٍ بات فيها من العادي أن نسمع البعض يتمنى الموت، ثم العودة من بعد الموت،ليتفقد بريده، فيرى من ترك له دعاء بالرحمة، أو بكاء عليه.
أليس الأحرى بنا أن نعيش أكثر أوقاتنا بين الناس، وندون ضحكاتنا على جدران الحياة الحقيقية لا الوهمية، أليس الأحرى بنا أن نتفاعل عن قرب؟ نتحدث؟ نتهامس؟
الحضور الكريم،
لست أتهجم على تكنولوجيا النانو، ولا على العالم الرقمي، فاختصاصي ينتهي عند الصفر والواحد. إنما أطلب أن يعود التعبير الجسدي فنّاً في الوصول إلى المتلقي، ولغةُ العيون حرفة في إيصال الرسائل. لا أطلب أن يعود زمن الكوبين والخيط، بل أن يُفسح المجال للأرواح، فيتعارف منها ما تآلف، ويتنافر منها ما اختلف.
 
حنان فرحات
3-4-2013


Apr 3, 2013

السيف أو قلم القاضي الفاضل؟


بعد سبعة قرون من الاختبارات الفاشلة، بدأ العالمان "أوليغ شيربي" – أستاذ في علم المعادن والهندسة في جامعة ستانفورد، و"هيفري لوكهيد" بحثهما المتخصص في السبائك المعدنية وخواصها. وبعد جهد مضن، توصلا إلى ابتكار معدن جديد ذو خواص فريدة.
وعند عرضهما إنجازهما على جمهرة من العلماء، إذ بأحدهم يصيح بأن هذا المعدن الجديد مطابق للفولاذ الدمشقي العريق. وبالفعل، بعد مقارنة المعدنين تبين للباحثين ان المسلمين قديماً كانوا يستعملون نوعاً من انواع "تكنولوجيا النانو". والنانوتكنولوجي هو الجيل الخامس في عالم الالكترونيات، الذي تبلغ وحدة قياسه 1\10000 من سمك شعرة رأس الإنسان.
من هذا المعدن بالذات، الذي اكتشف حديثاً، صنع السيف الدمشقي الأصيل، الذي حمل على حده أنابيب متناهية الصغر هي قمة التكنولوجيا في عصرنا، حتى أن القادة الأوروبيين كانوا يرسلون التجار ليشتروه من العرب بأغلى الأثمان. ومن بين هذه السيوف، اشتهر سيف "صلاح الدين الأيوبي" المعتبر من أهم عوامل نصره وفتوحاته، حيث أنه لم يكن يكتفي بقطع رقبة الخصم، إنما بلغت به الحدة لقطع سيفه أيضاً. وقيل فيه أن الشعرة التي تقع على نصله، كانت تقطع في الحال.
 إلا أن صلاح الدين نفسه، دفع الإدعاءات هذه بقوله: " لا تظنوا أني فتحت البلاد بالسيوف، إنما فتحتها بقلم القاضي الفاضل." فهل فعلاً كان السيف فاتح بلاد المسلمين؟ أم أن الأيوبي صدق في نسبة الفتوحات للقلم؟
الإسلام من منظور داخلي
أسلم رجل من بني سالم بن عوف، وكان له ابنان تنصرا قبل البعثة النبوية الشريفة، فقدما إلى المدينة يحملان له الزيت. لكنه من تمسكه بالإسلام، لزمهما وأبى أن يفارقهما قبل أن يشهرا إسلامهما، في حين أبدوا رفضاً لطلبه. واحتكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى الآية الكريمة:" لا إكراه في الدين"، وأصبحت قاعدة فقهية تمنع إجبار أحد على الدخول في الإسلام عن غير قناعة.
وتساند هذه القاعدة آيات محكمات كثيرات مثل :
"لست عليهم بمسيطر"-الغاشية،
"أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"-يونس،
"فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ"...
فكيف يكون الدين انتشر بالسيف، والشرائع التي نزلت به تدعو إلى غير ذلك؟ وهذا دليلنا الأول إلى كون رسالة الإسلام رسالة تبشيرية لا قسرية ملزمة.
"ثمامة بن أثال" مثال آخر يبرز لنا من مراحل انتشار الإسلام الأولى، وهو سيد بني حنيفة. ثمامة هذا، أسره المسلمون في إحدى السرايا، وكانوا لا يعرفونه. فأبقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده ثلاثة أيام، وعرض عليه الإسلام عرضاُ كريماً في الأيام الثلاثة، فكان يأبى ويقول:" إن تسأل مالاً تعطه، وإن تَقتل تَقتل ذا دم، وإن تُنعم تُنعم على شاكر"، فأطلق الرسول صلى الله عليه وسلم سراحه. وما إن خرج ثمامة حتى توجه نحو المسجد فدخله وشهد أن لاإله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. ثم قال:"والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي..."، فعاد إلى قريش معتمراً، وقاطعهم فمنع عنهم الحنطة حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن ذلك سيعود على تجارته بالخسارة.
فإن كانت معاملة الأسرى بهذه الدرجة من الرحمة، فهل يكون انتشار الإسلام إلا بالكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة؟ وهل يكون غير ذلك حين يأتي رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب الجهاد، فيسأله :"أحي والداك؟" فيقول نعم، فيأمره بقوله :"ففيهما جاهد".
وها هو أبو سفيان يقر بنفسه، بعد عداوة 20 سنة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: "لقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ثم سالمتك فنعم المسالم كنت".
ولم يخرج المسلمون من معركة إلا وفي أذهانهم دروس وعبر. ففي غزوة الخندق، أو ما يسمى بغزوة الأحزاب، حين اجتمع يهود المدينة بقريش وكنانة وأهل تهامة وبنو سليم بعشرة آلاف مقاتل حول المدينة، تعلم المسلمون مبدأ الشورى إذ أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم برأي الصحابة في حفر الخندق. وغرس فيهم الرسول، وهو القدوة، صفات القادة وحثهم على التعاون والمساواة حين شاركهم بحفر الخندق. كما عزز فيهم حسن الفأل ودعاهم إلى الصبر حتى يفرج الأمر. فكانت ساحات الوغى ساحات صقل للإيمان، لا مواضع طمع بالغنائم والسبايا.
إن لم ينتشر بالسيف، فلم الجزية؟
حين حشد الروم جموعهم على الحدود الشمالية لدولة الإسلام، كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى كل والٍ ممن خلفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جبي منهم من الجزية والخراج، وكتب إليهم أن يقولوا لهم:
"إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط، وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم"
فرد عليه الناس:
"ردكم الله علينا ونصركم عليهم، فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئا وأخذوا كل شيء بقي لنا."
فلو كان العرب مستعمرين لا فاتحين، هل كان سيكون لهم شأن أبو عبيدة؟ ولو كانت الجزية قصاصاً، لا منفعة جزاء منفعة، هل كانت سترد لأصحابها؟ وهل كان صلاح الدين الأيوبي سيعيد الجزية إلى أصحابها من النصارى حين اضطر للانسحاب من الشام؟
أوليست دولنا اليوم تأخذ منا من الضرائب أكثر بكثير من الخدمات التي تقدمها لنا؟ وهل يفكر الرؤساء يوماً بإعادة ما دفعنا من ضرائب حين يقصّرون-وفي غالب الأحيان يعجزون- عن تقديم الخدمات الواجبة عليهم؟
أم هل علمنا من أين أتى الغرب بفكرة ضمان الشيخوخة التي لا وجود لها في قاموسنا العربي حالياً؟ لم تكن هذه إلا وليدة حادثة جرت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذ رأى رجلا مسناً من اليهود يطرق الأبواب طلباً للمساعدة، فسأله عمر عن السبب، فعلل الرجل بعجزه عن دفع الجزية. أتدرون ماذا كان رد عمر؟ قال:"والله ما أنصفناك، أخذناها منك صغيراً وضيعناك كبيراً"، فأمر بإسقاط الجزية عن غير القادرين على دفعها، وأمر لهم بالمال من بيت مال المسلمين.
 وأعود لأسأل هنا: هل من يسقط الجزية عن غير المسلمين،  يبغي فيها القصاص والإذلال؟ وهل يكون السيف والترس عنواناً لمن يعفي غير المسلمين من الخدمة العسكرية في وقت هو فيه بأمس الحاجة إلى الجنود؟
الإسلام من منظور خارجي
بقدر ما دل تاريخ الإسلام على سماحته، إلا أن المستشرقين لم يتوانوا عن البحث فيه واستنباط الأسس والقواعد المتبعة فيه والمبنية عليه. ومع أن الكثيرين ضُلِّلوا وخلصوا إلى استنتاجات خاطئة، وصل أمثال "غوستاف لوبون" - مؤرخ فرنسي-و"يوري أفنري" – كاتب إسرائيلي ملحد، عضو بالكنيست، ومؤسس حركة جوش شالوم للسلام- إلى نتائج يؤيدها التحليل المنطقي والتاريخ.
فغوستاف لوبون وصل إلى أن الأديان يستحيل أن تفرض بالقوة، وأن الإسلام لم ينتشر بالسيف، ولو فعل لما بقي إلى يومنا هذا. وأن الدعوة هي السبيل الوحيد لذلك، وبها قهر المغول والأتراك، ووصل القرآن إلى الهند وانتشر فيها مع أن العرب مروا من هناك عبور السبيل، حتى وصل عدد المسلمين هناك إلى أكثر من خمسين مليون نفس. ولم يكن العدد في الصين أقل من ذلك، مع أن العرب لم يفتحوها قط.
أما يوري أفنري فقد سلط الضوء على أن حكم المسلمين لليونان لم يحل دون تسلم اليونانيين مناصب رفيعة في السلطنة العثمانية، مع أن أغلبهم تشبث بالمسيحية ولم يدخل في الإسلام. ولفت النظر إلى المرحلة التي استعاد فيها الكاثوليك إسبانيا بعد حكم المسلمين فيها، حيث كان على المسلمين واليهود حل من ثلاثة: الذبح، أو اعتناق المسيحية، أو الخروج من إسبانيا. فتوجه المسلمون إلى البلاد العربية، لكن ما كانت وجهة المئات من اليهود؟ استقبلهم العرب بالترحاب ولم يُأمروا بالإسلام، بل دفعوا الجزية وتم إعفائهم من الخدمة العسكرية، فسكنوا من المغرب إلى العراق، ومن بلغاريا إلى السودان.
ويتوجه يوري إلى اليهود بقوله: " كل يهودي أمين يعلم تاريخ قومه لا يسعه إلا أن يشعر بالامتنان للاسلام الذي حمى اليهود لمدة خمسين سنة."
مقاربات  واقعية
إذا ألقينا نظرة على تاريخ الكنيسة المعلقة في مصر، نجد أنها جددت في عهد هارون الرشيد. أما الكنيسة المريمية في دمشق القديمة فقد أعيد إعمارها في عهد عمر بن عبد العزيز، ويعود تاريخها إلى القرن الأول المسيحي.  كيف يتم ترميم وإعادة إعمار هذه الكنائـس إذا كان الإسلام ينتشر بالإرهاب، وهمُّه محاربة الأديان؟
وكيف يقارب عدد المسلمين في أندونيسيا والهند والصين ال300 مليون، في حين لم يصل العرب إلى هناك فاتحين؟
لنقم بعملية حسابية بسيطة:
على مدار عشرة سنوات،  وفي أكثر من 63 معركة بين غزوة وسرية وحرب، بلغ عدد الشهداء في صفوف المسلمين 262 شهيداً، وفي صفوف الأعداء 1022 قتيلاً. فإن قيل أن العدد قليل لأن عدد المقاتلين قليل، لنحتسب إذاَ النسب المئوية. سنجد عندها ان النسبة هي 1% في صفوف المسلمين، و2% في صفوف أعدائهم، أي ما يوازي معدله 1.5%.
أما إذا أخذنا الحرب العالمية الثانية مثالاً معاصراً، نجد أنه في حين كان عدد الجنود 12 مليون و600 ألف، بلغ عدد الضحايا 54 مليون و800 ألف، أي ما يساوي ثلاثة أضعاف عدد الجنود وما نسبته 351%.
والخلاصة هنا أن المسلمين لم يعتمدوا في معاركهم إلا على ساحات القتال، بل وأُمروا أن لا يقطعوا شجرة ولا يقتلوا عجوزا ولا امرأة ولا طفلا.   وبالمقابل، تخوض الدول التي تلفق الشبهات حول انتشار الاسلام بالسيف حروباً ضارية أهدافها المدنيون والبنى التحتية والنظام الإقتصادي.
فهل يا ترى ما زال لدينا شك حول مقولة صلاح الدين بفتحه البلاد بقلم القاضي الفاضل؟ أم أننا مصرون على أن نبقى كائنات نانونية تتقبل بسذاجة كل ما يلفق حولها من شبهات؟