Oct 23, 2011

صمتي حكاية


صمتي حكاية
هي لغة لا يدركها إلا القليلون...
يفهمها العارفون بلغة العيون...
نظرة سريعة إلى ذلك البريق الذي يسكن سواد البؤبؤ...
تجتاز الحاضر إلى عالم آخر، يسكن خلف القضبان العظمية...
جولة صغيرة هناك،كفيلة باستخراج ما في بئري من أسرار...وإزاحة ستار الغبار الرابض فوق حكايتي...

عزيزي،دفتر مذكراتي...
من الآن فصاعداً لن يخنق الغبار غلافك، فلكلماتي موعد مع سطورك...
سأدون فيك مكنونات فكري،وأشكو إليك همي، وأشاركك فرحي وحزني وشوقي، وأودع فيك أسراري،...فمن حسن حظي انك تتقن اللغة الوحيدة التي اتقن...
لستَ بحاجة إلى صوتي الحنون الذي سلبتنيه الأيام...تكفيك بعض الرموز التي أخطّها بقلمي، فتفهمني...
أراك محتاراً،...تسألني: "لم ألجأ إليك؟؟"؟...
هاك إجابتي...
لأنك لن ترفض سماع حديثي إن ضجرت مني أو مللت...
لن تسألني عما لا أفصح به إلا لذاتي...
لن تطلب مني الإجابة، وأنا فاقدة للوسيلة...
والأهم من ذلك...أنك لن تكويني بنظرات الشفقة التي يرمقني بها الناس...
سأجلس وإياك كل مساء، أحدثك عن يومي...وقد أقص عليك حكايتي إن لم أغفو فوق صفحاتك...
أما الآن، فاعذرني...لا أريد أن تلحظ جدتي انني ما زلت مستيقظة...
لي عودة، فانتظرني...

رنيم
ها قدعدت...
مضى يوم على لقائنا أيها الدفتر العزيز...أولاً، سأعرّفك بنفسي...أنا رنيم ذات السبعة عشر ربيعاً، طالبة في الثانوي الثالث... أعيش مع جدي وجدتي منذ عدة أشهر...يحبانني كثيراً...وأنا أحبهم...لكنني أتمنى لو أنني لم أجبر على السكن في منزلهم، أو تناول الطعام معهم...
تحاول جدتي جاهدة أن تملأ الفراغ، إلا أن الزمن قد أفقدها مهارة لعب الأدوار...
هي تدري أنني أحنّ إلى الأمس القريب... حين كانت أشعة الشمس تنساب على وجنتي من خلف الستارة، يصحبها صوت أمي وهي تناديني لأستيقظ...حين كانت تجبرني على تناول بعض اللقيمات قبل أن أذهب إلى المدرسة...وتنتظرني على الباب حين أعود، فتسألني عن يومي كيف كان، لتشاركني لحظاتي الحلوة والمرّة ...
أحنّ إليها تقبّلني قبل النوم كما لوأنني طفلة صغيرة... إلى حين كنت أرتمي في حضنها وعيوني غارقة بالدموع، فتمسحها برفق وتربّت على كتفي حتى أهدأ،...
أتُراها اشتاقت إلي كما اشتقت إليها؟...
هي المرة الأولى التي تذهب فيها دون أن تودّعني...والمرّة الأولى التي أوقن فيها تأخرموعد اللقاء...
ذهابها جعلني أسيرة حياة، أسوارها الأشواق ونظرات الشفقة وصدى الصمت...
كنت أشكو بُعد أبي في سفره، أما الآن فأحمد الله على بقائه في حياتي، قريباٌ كان أم بعيداٌ...رغم أنه لم يعد بوسعي أن أناديه " أبي"... إلا أنني ما زلت أمتلك بعض خيوط الأمل بلقائه...تماما كأملي بلقائك غداً...تصبح على خير...

رنيم
عمت مساء،دفتري العزيز،..

كان يومي أفضل من غيره، فقد نجح أصدقائي برسم الابتسامة على وجهي..لا أدري كيف، ولا لم.. يكفي أنني ابتسمت بعد أن يئست من ذلك..
أخبرك سراً؟..
قدمت إلي سارة في الصباح، وجذبتني من يدي إلى إحدى زوايا الملعب بعجلة..ثم فتحت محفظتها وأخرجت كيساَ زهرياً برّاقاً ووضعته في يدي..أشرت بيدي الأخرى إلى صدري أسألها إن كان لي..فأومأت برأسها!
منذ زمن لم يهدني أحد شيئاً..! قالت لي بمرح:" ألن تفتحيه؟،..أم  أن لون الكيس لم يعجبك؟"..
لم تنتظر إجابتي لأنني فتحته بسرعة لتقع عيناي على دفتر زهري صغير وقلم من نفس اللون والحجم.. نظرت إليها فابتسمت..ثم أردفت قائلة:" أبقي هذا في جيبك، وكلما أردت أن تكلمي احدا أو تجيبي أحدا، اكتبي عليه"..قاطعها صوت الجرس فذهبنا للاصطفاف..
لم أفرح بهديتها  قدر ما فرحت باهتمامها بي..تخيل! هناك أحد في هذا الكون يود التواصل معي..ويريد معرفة ما كنت سأقول لواستطعت الكلام.. لكن لا تخف..هذا لا يعني أنني سأستغني عنك، فأنت فهمتني قبل ان تفعل هي..
أراك غداً بإذن الله

رنيم

Sep 29, 2011

حين يعود، فنعود...

حين يعود...سيكون لنا موعد مع صوت الأذان تصدح به مآذنك...
بيتي الحبيب،
اشتقت إايك، كما كلّ إخواني هنا...
نختلف في اشتياقنا فقط بالقليل...
نختلف من أي سبيل سنشرب حين نعود...أمِن سبيل "الرحمة" أم من سبيل "الزيتونة"؟
نختلف فقط في أي من "مصاطبك" ال"26" سنجلس حلقاتٍ للذّكر...
نختلف فقط في أي من مدارسك سنتلقى علوم الدين والدنيا....
نختلف فقط في أي من أروقتك سنجلس نتسامر في الليالي الماطرة...
أتذكر؟
أتذكر حين أَغلقَ "باب الرحمة" و"باب الجنائز" خوفاً عليك من الغزاة؟...وكيف تنساه وقد خلّص نواحيك من أرجاس الصليبيين...
لكن همّنا يبقى ان لا تنسانا...
فصحيح أنك لم تًعتًد على رؤيتنا ساجدين في ساحاتك...ولم ترانا نكبر في أكنافك...إلا أنك يوماً ما ستذكر الأمل الذي يلوح في اعيننا كاّما مرّت ذكراك...
الآن...
نرسم على الرمال المحيطة بخيمتنا صورتك التي لم ولن تغيب عن أذهاننا...
ثم نخيط نافذة في السماء نُطِلُّ منها لنلقي التحية عليك قبل أن تنام...
فلنا موعد للقاء عمّا قريب...
وأمامنا ليل طويل لنفكّر من أي أبوابك نودّ الدخول...
حين يعود صلاح الدين...


Sep 14, 2011

خاطرة

كُثُر هم من يمرّون في شوارع ذاكرتنا، لكن قليلون هم من يتركون آثارهم في أحيائها...يمر الصبا فيحمل منهم سلاماً بعد أن غيّبتهم الأيام، فيعطر الفؤاد، ويدخل البهجة إلى القلب....

Sep 8, 2011

لكل نهاية بداية

حين نخوض غمار الحياة،
تأخذنا رياحهها إلى المجهول...
تضيع الأولويات، ونعانق الهموم...
فتخبط بين الأمواج...دون أن نتبين نهاية لخط الأفق،
وحين تخفت الأنفاس...
 ويقارب القلب السكون..
.وتثقل الأوجاع الجفون...
تلوح خيوط الشمس...
وتعانق الرمال الدافئة الجسد المنهك...
وما هي إلا سويعات حتى نعود إلى المضمار...
فلكل نهاية بداية...

Sep 7, 2011

أقسى عتاب

في زيارتي لطفولتي بين الحين والآخر، ألمح ذلك الوجه النّقيّ...و وجه أَلِفتُ قسماتِه، فلطالما أعنت النّظر إليه..العم أبو علي...كان البائع في دكان المدرسة...أحبّ الأطفال جميعاً،...وكان له مكانة خاصّة لديهم. لم يطل العهد ب"أبو علي" هناك، فقد غادر المدرسة ليجد عملاً آخر...وبقي الدكان.
مرّت الأيام...وكبر الأطفال...أما ذكرى "العم أبو علي" فقد اختبأت خلف جدران النسيان...
وتساقطت سنةً بعد سنةٍ أوراق من أعمارنا...وإذ بصورته ترتسم أمامي في يوم من الأيام...اشتقت إليه...كنت أقول في نفسي علّني أراه...وشاءت الأقدار أن يصل خبر وفاته بعد أيام، رحمه الله... بكيته ركناً من أركان طفواتي، وزازية من زوايا حياتي.... حينها، لم يَعُد لي أن أتمنى رؤيته...
مضت سنتان منذ ذلك الحين،...جلست أتصفّح كتاب "الروح" ل"ابن قيم الجوزية"...قرأت في صفحاته عن رؤى بعض الصالحين لبعض الأموات في منامهم...فغدوت أصبح وأمسي على الدعاء للأموات من أهلي وأحبابي...ونسيت "العم أبو علي"...
وذات ليلة...رأيت نفسي في ما يرى النائم أنني أزور مدرستي، قاصدةً دكانها لأسلّم على "أم علي"...وإذ بها تهرع إلى "أبو علي" قائلةً:"ها قد جاءت حنان، ألم تكن تسأل عنها؟"!فسلّمت عليه وابتسمت، إلا أنه نظر إلي مستغرباً. قلت:" ألم تعرفني؟؟"، قال:"لقد تغيرت كثيراً..."...وانتهى احلم...استيقظت فرحة جدّاً برؤياي...لقد رأيته أخيراً!!
أمضيت ذلك الصباح وأنا أفكر بما قد يعنيه ذلك الحلم...وانقلبت فرحتي دموعاً...لقد عاتبني أبو علي على نسياني له...وقد كان أقسى عتاب...
لذا أراني أكتب هذه الكلمات، ليدعو كل قرائها ل"العم أبو علي" بالرحمة...
رحمك الله واعمّااه...وأدخلك فسيح جناته
حنان فرحات
7-9-2011

معلمتي...

معلمتي...
حين كنت صغيرة، علمتني كيف أكتب رسالة إلى شخص عزيز...لكن...فاتني أن أسألك...هل يا ترى لرسالتي أن تصل بعد أن تغادر روحه عالمنا؟؟
 معلمتي العزيزة...إليك القصة ولكِ أن تحكمي...
منذ سنتين... انضممت إلى المقرأة في مركز الأبرار التربوي برفقة بعض زملائي في الدراسة. حين قصدناها أول مرة، استقبلنا بوجه بشوش وابتسامة عريضة، وتبادلنا أطراف الحديث، حتى انتهت الحصة...كانت كذلكَ كلُ حصةٍ...مرّتِ السّنة كما لو أنها لم تمرّ... نحفظ القرآن، ويشرح لنا آياته، وقصصه، ونتلقى بين الفينة والأخرى حكماً في التجويد لنطبّقه في ما حفظنا...كانت تمرّ الأيّام بسرعة...
ذات يوم...أتيناه وإذ به حزيناً، يخط بقلمه كلماتٍ على إحدى الوريقات بين يديه...كان يرثي فقدان أحد أصدقائه الأعزاء الذي كان يهمّ بزيارته عمّا قريب، إلا أن القدر سبقه...روى لنا كيف التقى به...كان يرسم على وجه ابتسامة تكاد تصل إلى جفونه المغرورقة بالدموع، تماماً كالتي ترتسم على وجهي وأنا أكتب إليك كلماتي...لقد أحبه في الله...
آيا معلمتي أجيبي! أين أبثّ حزني؟ لمن أوجّه كلماتي وقد غاب من غاب؟ في قلبي حسرة تزيد كلّما تذكرت كلماته التي انتظمت شعراً حين توفي الشيخ فتحي يكن،ومن ثمّ الشيخ خليل الصيفي رحمهما الله... كنت أبدي إعجابي بما يكتب... إلا أنني لم أكن أدرك ما معنى أن تَصِفَ لوعة القلب بالحروف... والآن...تخونني الكلمات، وتأبى أن تنتظم...أتراها تغار من دقّات قلبي الذي يرتعش كلّما مرّت ذكراه؟...
نعم معلمتي،...لم يَعُد لنا أن نذكر اسمه، إلا ونقرنه ب"ذكراه"...ونِعمَ الذكرى...
كنت  أصادفه على الدرج، فيقول لي: اشتاقت المقرأة لكم...وأقول له: ونحن أيضاً... ولكن الآن...أراني وَالمقرَأَةَ نشتاقُ إليه...
ما رأيك معلمتي؟ هل ستصل رسالتي؟ أم أن الأوان فات؟
رحمة الله عليك أستاذي الفاضل...<<أديب القادري>>...رحمة الله عليك
اللهم اجعل قبره فسحة من نور..
اللهم عامله بما أنت أهل له...ولا تعامله بما هو أهل له...
اللهم اغفر ذنوبه، وضاعف حسناته، وتقبل عمله الصالح....
 اللهم ارحمه ووسع مدخله إلى الجنة...
اللهم أسكنه فسيح جناتك...
طالبتك
حنان فرحات
الرفيد، 5-9-2011

عصارة الأيام

أغمض عينيه، علّه يهرب بأنظاره من الواقع، ذلك الوحش المفترس الذي كاد أن يقضم بأسنانه ما تبقّى من الجَلَدِ الذي يحويه جسده الهزيل. ذهب بهما بعيداً حيث توجد تلك الأطياف النّورانيّة التي تُدعى الحرية والسلام، لكنّه سرعان ما شعر ببراثن قويةٍ تنتزعه مجدّداً لتعيده إلى الأمس، حين أفاق على زقزقة العصافير، وخرير الماء في البركة أمام المنزل، ثم توجه إلى المطبخ ليتناول إفطاره مع إخوته...
لا، لا، ... لم يكن ذلك أمسه، فقد أخطأ مجدّداً بين ما حَلُمَ به وبين الحقيقة: هدير الطائرات الإسرائيلية التي تحلّق في الأجواء كالعادة، وتقصف أحد الأهداف المدنية، فتسيل الدماء، تماماّ كما لو أنّها مياه البركة... وفطوره، لم يكن مع إخوته، ولا مع أمّه، ولا مع جدّته...بل كان مع أقرانه في الميتم، حيث جمعتهم مأساة فقدان الأم الحنونة والأب المربّي ،حيث لِكُلٍّ قصّته، ولِكُلٍّ أَلَمُه...
كان "سامر" و"علي" و"محمّد" و"حسن" إخوته وآبائه وأصدقائه، وكانت "عائشة" و"مريم" و"آمنة" أخواته وأمهاته وصديقاته... كانوا جميعاً يداً واحدة: الخائف منهم يَحُثُّهم على الشجاعة، والصغير منهم يَحُثُّهم على الصبر،... كانوا جميعاً حيث لا يجب أن يكونوا، في أحضان الهلع والموت والدّماء قبل أن يتجاوز أكثرهم العقد الأول من عمره...
ولم يكد يشعر"جهاد" بقربهم منه، حتى ضاعت الصورة، وتداخلت الألوان، فخسرهم مرّة أخرى، بعد أن شتّت إحدى القنابل أشلائهم، وجَمَعت أرواحهم في الفردوس الأعلى...مدّ يده إليهم، وناداهم بأعلى صوته أنِ انتظروني، ولكن كان لروحه موعداً آخر مع الحياة...
فتح عينيه هنيهة، تماماً كما لو أنه يفتحهما لأول مرةٍ، لكنّ شريطاً من الأحداث والوقائع المريرة التي رفض أن يبقى أسيرها عكّر صفو تلك اللّحظة، هذا الشريط هو الشيء الوحيد الذي ميّزه عن لحظة ولادته. فالقدَر الذي عَجِزَ عن نزعِ إصراره وثباته على الحق، أثقل جفنيه بالذكريات مرةً أخرى، آخذاً إيّاه إلى الماضي البعيد البعيد،...
أخذه إلى الدقائق الأولى التي أمضاها في الحرية... كان مفهومها لدى جهاد مختلفاً، فالحرية لم تكن لِتعنيَ المُكوث خارج القضبان بالنسبة لوليدٍ في الأسر، بل عَنَت مجرّد التواجدِ قُربَ الأُمِّ، والشعور بأنفاسها، ودقّات قلبها الحاني... ما إن حفِظ قسمات وجهها، ونبرة صوتها، وإشراقتها في الزنزانة المُعتِمَةٍ، حتى بُشِّرا بالحرّية، فخَطَت أمّه  تُعِرِّفه على الشمس والنّسيم، عابرةً به إلى العالم، راميةً نفسها ووليدها في أحضان الوالد الذي كُتِبَ له لُقيا ابنه الأوّل على بوابة السجن الإسرائيلي الغاشم.
 كانت أولُ صدمةٍ له، التعرّف إلى مفهوم "المنزل"، فقد أمضى جهاد ليلته الأولى بصحبة والديه تحت الجدار الأخيرالصامد من البناء الذي كان سيكون منزله، بعد أن اعتاد على العيش بين جدرانٍ أربع، وتحت سقفٍ يظلّله من السماء!
السنوات الكثيرة التي شاركه والداه فيها القلق من صاروخٍ قد يخطف أحدهم من الحياة، والتي تلتها دائماً ابتسامة فرحٍ، وحمدٌ لله على النجاة، الأسابيع التي قضوها في العراء وكلّلوها بالدعاء، الأيام التي صامها والداه كي يطعموا ثغره الصغير، والساعات التي أمضاها وأمِّهِ في انتظار عودة والده من المساعدة في انتشال الضحايا من تحت الركام... كلُّها... لم يكن لِيَتَصَوَّرَ أن تَمُرَّ بهذه السرعة... ولم يكن لِيَتَوَقَّع أن تكون تارةً سبباً في بكائه وطوراً في صموده!
كم كان فرِحاً حين جمعه التّهجير من بلدته بجَدَّيه وعَمِّه! كان لقاءً حارّاً مليئاً بالدموع أدرك فيه جهاد معنى العائلة الواسعة، والصعوبات التي تحمّلها والداه بعيداً عن أحِبَّائهم.
رأى الأطفال أمثاله محرومين من أبسط مقومات الحياة، فتعلّم الشفقة والإيثار...تماماً كما تعلّم منهم الأمل مع كل ابتسامةٍ شقّت طريقها من بين الشفاه الجافّة...
تنهّد بعمق، ثمّ قلب صفحات كثيرة من ماضيه، تتساوى كلّها في المضمون: أشلاء، ودمار، ودخان،...أرامل، وثكالى، ويتامى،...خوف، ورعب، وعويل،... لكن لا..صفحة صفراء...صفحة مختلفة...استوقفته.
كيف لا؟ ففي طياتها تعلّم الآهات والتنهدات وله من السنين سبعة. لا زال يذكر جيّداً كيف طلبت منه أمّه إمضاء بعض الوقت خارجاّ مع أصدقائه ريثما ينضج الغداء. لكن في ذلك اليوم، وحتى في اليوم الذي تلاه، لم يكن ليقدر على تناول الطعام...بل ولم يكن ليقدر على رؤية الطعام...لأن الطعام آنذاك، وفي اللحظات التي فصلته عن العودة إلى المنزل، نضج تماماً كما نضجت أجساد والديه...نعم،! فقد كانا على موعد مع الشهادة، تحقّقت أمنيتهما، وارتقت أرواحهما سويّة ألى الرفيق الأعلى،...وتركته وحيداً، أسير الدّنيا، مكبّل اليدين.
ومن ثمّ توالت الصفحات الصفراء، بل وأصبحت في اصفرارها تميل الى الاحمرار،...
في سنوات قليلة، فقد أعز ما يملك: والديه، جدته، عمّه،...
ضمه الميتم، ليُفقده القدر أصدقائه هناك،
الكثيرون الكثيرون من من عرف، سبقوه إلى ما تمنى،...
كان يستشعر وجود الله معه في لحظاته العصيبة، فيلجأ إلى ترتيل ما حفظ من آيات، لتدخل إلى الصّميم وتسكّن الآلام، وتبلسم الجراح...
تنفس بعمق....
لااا، لن تقف مرارة ذكرياته مرة أخرى عقبة في سبيله إلى الحرية...استجمع قواه التي لطالما استوحاها من اسمه، الذكرى الوحيدة التي تركها والداه، ومشى...
فعصارة أيامه اليوم، ستكون الدواء الذي يكوي جرحه، فيشفيه.