Dec 16, 2016

"تحرّرت حلب"

في مشواري الصباحي بواسطة النقل العمومي الكثير من الدهشة التي أصادفها على شكل أشخاصٍ أو أحداثٍ أو بقايا من أحاديثٍ تخرج على شكل أفٍّ أو تنهيدة، ومنذ يومين كانت الحادثة الأغرب؛ قُلنَ بِفرح غامر: "تحررت حلب" بينما كنتُ أركب الباص، فضربت الجملة طبلة أذني طارقةً عقلي، مُدخلّةً إياه في حال من الذهول. سيدتان سوريتان في الصف الخلفي جلستا تتشاركان الخبر طازجاً، قالت إحداهنّ تَزُفُّه للأخرى مُقسِمةً بالله أنهم "عرضوا ذلك على نشرة الأخبار ليل البارحة".. قالت إنهم قد عرضوا مشاهد الناس يحتفلون ابتهاجاً بالنّصر المُبين، فاستفسرَت الأخرى عن أي منطقة بالضبط تحدّثوا، ولكنّ الأولى لم يكن عندها الجواب. فتحت حسابي على الفيس بوك لأتأكّد من الخبر الذي "راح عليّ" كوْني كنت أدرس في الليلة السابقة ولم تسنح لي الفرصة أن أطّلع على مجريات الأحداث، قلتُ أحتفل معهنّ. وما إن فتحته حتى استقبلتني صور السكان المبتهجين المحتفلين الذين ذكرتهم السيدة تلك. 

اغرورقت عيناي من "الفرح" بينما تراءت لي صور رجلٍ مسنٍّ بعمر نكبة فلسطين يعتصر ما تبقّى من دموع لديه على ما تبقّى من ركام ورفاة.. ثمّ "ابتهجتُ" أكثر لمّا رأيت شابّاً من عمري مستقبلاً لوحةً رماديةً بضربة على جبينه أظنّه تمنّى لو كانت القاضية.. وخانتني الدمعة أمام سيّدة تركض فاتحة ذراعيها كما لو أنّها تريد احتضان الشارع الذي امتلأ بال"مُحتفلين" المَرمِيِّين على جوانبه. لكم أن تتخيلوا كم "سَعِدتُ" بِصورة رجل يحمل ما تبقّى من ثمرة عمره، رِجلا ابنته تلوحان في الهواء بينما يحتار هو أيبحث عن بقيّة جسدها أم يكتفي بما وجد.

رجلٌ ثلاثينيّ يقف أمام من كانت ستكون أمّ أولاده، طفلة تخبر والدها للمرة الأخيرة أنها لا تريد أن تكبر أكثر، صديقان لا يدريان من يتّكئ منهما على الآخر، تجاعيد على وجهٍ تخجل من فرط تغلغلها إلى القلب، دمعات تجفّ من شدة الصقيع، ألوان تمّحي من كثرة البهوت، أطيافٌ تعتلي بقايا أشخاصٍ غدوا أرقاماً يُنهك المُسعِفين تعدادهم، أكفٌّ تحتار هل تمتدّ نزولاً لتُساعدَ أم ترتفع لتسأل الله العون والصبر، حجارة تكاد تنطق من وفرة الآهات تحتها، وحسابات فيس بوك تنتقل إلى خانة الحسابات غير الفاعلة.

وددت لو أشارك الصَّور مع السيدتين لأؤكد كلامهما حتى تفرحا أكثر. لكنني من الصدمة سكتّ. احترت فعلاً أنّني لم أجد في الصّور ما يعبّر عن استعداد سكان حلب لذكرى مولِد النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم.. ثمّ فكّرتُ أن لربّما لم تصلهم أخبار أسبوع الوحدة الإسلامية الذي يُفترض به أن يجمع شمل المسلمين ويعيد أمجادهم.. ثمّ أين زينةُ ذكرى ميلاد المسيح عليه السلام؟ أين هم من التعايش مع أبناء الديانات السماوية؟ أيُعقل أنّهم سيُفوّتون احتفالات رأس السّنة، أم إنّ الموضة فرضت عليهم اللونين البنيّ والرمادي؟!

أحسست بواجبي تجاه سكان حلب الذين لم يبقَ لهم من حلب شيء، اللهم إلا "الاحتفالات". شددت الهمّة وفتحت صفحتي الخاصة كي أشارك في النّدب والعويل.. لم أجدْ ما أقوله.. كتبت مرة واثنتين، كذبت مرة واثنتين ثم محوت.. قررت أن أكتب ما حصل فعلاً: "يقولون، في الباص، تحررت حلب!"

Dec 12, 2016

في البَرْد

البرد أزيز الباب، وحفيف الكفّين ذهاباً وإياباً يحتكّان، وزفيرٌ يحمل من الباطن أملاً بالدفء يخرج على شكل ظل غمامة.. والبرد أوصال ترتعد، ورُكَبٌ تهتز، وأسنان تصطك. وهو الأبيض يغطي الأرض ملحاً وفيراً، والثلج يذوب نهراً غزيراً، والمياه تشتاق إلى الأرض فترمي بنفسها من سطح المنزل، والسطح يتمسك بمياهه فيجمدها أشواكاً مسننة، والشمس تستميحه أن يسمح لها بالنزول.

والبرد وحدةٌ قرب المدفأة، وغيرة من أخشاب تحترق متكاتفةً في حضنها. والبرد فكرة تجتاح سكون الليل فتأجج الاشتياق. والبرد همسة تنقل خبراً سيئاً، ونظراتٌ متسمرة عليك كأنها تقرأ ما يدور في خلَدك،  وهمزات أصدقاء في غيابك، ولمزات أقرباء في ضعفك.

البرد نصل سكين هو أهون الأمرّين، وجِلسةٌ منكفئة في زاوية، وساعدان متشابكان علهما يتدفآن.

والبرد جندي من جنود بلادي يؤدي واجبه،  وحارس ليليّ هو الساهرة عينه، وطبيب في غرفة التخدير، وعاملٌ عمله في سبات، وطائر أضاع سربه المهاجر، ونملة متأزرة بحبة قمح دهسها الجهل، ونحلة مختبئة في قفيرها إلى حين يأتي الربيع.

والبرد صحن فارغ، وبالٌ مشغول، ويد منهمكة.
وهو كفّ تغسل وتطهو وتنظف.
وأما أشدّه فبدنٌ متيبس، طعامُ الدّيدان.

Dec 11, 2016

التابوت

يقِفُ كما في كلّ سنةٍ عند رأس التابوت ذاته، لكنّه هذه المرّة لا يسمع لهاثه. فالدرس الجديد الذي أضافه إلى سلسلة المجلّدات التي يحاول عبثاً حفظها في رأسه يقضي بأنّ موعده مع هذا التابوت مُقّدّر: فهو إما أن يصل، أو لا يصل. لكنّه، أبداً، لا يتأخر.

في جعبته الأفكار التي قضى أياماً وإياها، تترنّح في رأسه كما الهذيان. وبيده حقيبةُ أوراقٍ ومستندات وفواتير، وعلى جبهته، متعامدة تماماً مع عينيه، علامات تركتها الانتكاسات التي تولّد في قلبه ريحاً قليلاً ما تهدأ.

فتح التابوت، كما في كلّ مرة. أزاح بيديه الثخينتين التَّعِبتين خشبه العتيق بعمر الصرخة الأولى، فتسربّت رائحة عفن وقِدَم. لن يستطيع إغلاق أنفه كي يتفادى الرائحة، فإزاحة الغطاء تتطلب مجهوداً هو ذاته الذي يضبط المخبوءات عن الإفلات. وبينما تتفلّت من التابوت غمامة ذكريات، داهمته موجة سعالٍ أبعدتها عنه.  

ألقى نظرة على ما فيه. الحقائب الجِلديّة المُبهِجة التي يرميها في قعره كلّ سنة ويرمي معها ضحكاته وانتصاراته. ثمّ إلى اليمين قليلاً صناديق المشاوير، وملفّات الزيارات والواجبات، وأكوام الفواتير من الطبيب والناطور وعامل الموقِف. في زاوية أخرى وجَد غلاف سكاكر فارغ أعطاه إياه طفل في الحافلة، غلاف فارغٌ إنّما ملوّن. ابتسمَ وهو يتناوله مُظهراً أسنانه التي أهلك لونها التدخين وأضاعت جوانبها اتّكاءات السجائر، ثمّ أشاح بوجهه إلى الوشاح الأسود. ذاك الذي لبِسه عزيزٌ في حداده على عزيز آخر.. قبل أن يغيب الاثنان.

من تحت الأغراض يُطِلّ غلاف كتابٍ كما نور الشمس في يوم ممطر. خجِلاً، يُذكّره بيومٍ جميلٍ، وقصة جميلة، ونهاية مضى على انقضائها شطر من الزمن. وإبرة وخيط رتق بها حوادث عابرة.. خاطَها أحداثاً كان يمكن لها أن تقفز من مخيّلته إلى الواقع لولا شيءٌ ما، لم يكن يملكه. وورقةٌ لزهرة لم يشأ أن يقطفها، وكوبٌ أخذ القرار فجأة بأن يُحيلَه إلى التقاعد، وتنهيدة على شكل أزرار قطعها عن أصلِها في لحظة غضب، وحبر على قطعة قماش، خانَه يومَ أراد البَوْح.

سمع الجرس يُدقّ. لقد أطال الزيارة هذه المرّة. أخرج رأسه من التابوت، وتناول بأسىً، أو ربما فرح، الكومة التي أتى بها. حمَلها بعجزٍ كاضطراب أمّ تسمع للمرة الأولى بكاء ابنها، ثم رفعها حتى وصلت إلى حافّة التابوت ودحرجها إلى الداخل. ألقى نظرةً أخيرة، ربّما لن يتّسع التابوت لعودةٍ أخرى، أو قد يبتلع شيئاً ممّا يُلقِمه فيفرغ مكاناً للجديد.

وضع يديه على حافّة التابوت، ثمّ دفع نفسه وقوفاً. ابتلع أكبر كمية من الهواء الذي يحسّ به يتسرّب من رئتيه المتهالكتين، فشمّ فيه رذاذ الذكريات. ابتسم، لكل الخيبات والضحكات، ثمّ همّ بإغلاق التابوت ليبدأ رحلة البحث من جديد؛ رحلة البحث عن بائع الوقت الذي قد يطيل عمر يومه قليلاً فيجد متّسَعاً لفعل ما يريد، لا ما يجب.

حنان فرحات
بيروت
في كانون الأول 2016