Jun 4, 2016

سترة فاطمة


دخل الصّيف بغتة من نافذة الغرفة 241، إذ دخلت الشّابة إليها. جلست على سريرها ذابلةَ إثر التهاب فتك بجسمها النّحيل. تتدلى السّتارة الزّرقاء بينها وبين مريضة التَهم المرض من جسدها تاركاً إياه هيكلاً عظمياً.

لم يتطلّب الأمر سوى دقائق حتّى ألّف الألم بين قلبيهما.

تقول قاطنة الغرفة الشّبه دائمة بحسرة : "المشحّر الله يزيده شحار"، إذ تُحدّثها عن وقوعها وهي متوجّهة إلى دورة المياه لتتورّم قدماها كأنّ ما في كليتيها من هزلٍ لا يكفي. تتكلّم عن مُصابها؛ تزور المشفى أسبوعيّاً منذ خمس عشرة سنة لتغسل كليتيها، وإذا ما ساء الوضع تصعد نحو غرف المرضى في الطابق الثاني. هناك تتمدّد حيث يسمحون، وتنتظر بصبر يكاد ينفذ شريكها بالغرفة لتتعرّف عليه، تخبره عن مأساتها، تدعو الله أن يخفّف عنها حِملها من الوجع، ثمّ تتمنّى زيارة من أهلها لها قبل أن يحلّ الليل. تقول أنّها نسيت بعضاً من حاجاتها في المنزل، ليتهم يذكرونها فيحضرونها معهم. وقبل أن تُنهي الحديث، تسأل شريكتها بالغرفة: "كم لكِ من الأولاد؟". تُجيبها سلمى أنّها ما زالت طالبة في المرحلة الثانوية، ولم تتزوج بعد. تهزّ السّيدة رأسها باستغراب، بينما تُحدّق بطبق الطّعام الخاصّ بسلمى، الأمر الذي يجعلها تخجل.. تسألها سلمى إن كانت ترغب بطعامها فهي لا تريده، فتهزّ بالنّفي رأسها وتستثني من ذلك كأس اللّبن، لأنّ الممرّضة نسيت أن تحضر لها كأسها. تُناولها سلمى اللّبن وتراقبها تلتهم الطعام المُعَدَّ في المشفى، والذي يكاد يخلو من أيّ نكهةٍ، كأنّه وليمة فاخرة. تسأل سلمى مجدداً: "هل أنت متأكدة أن تناول اللّبن مسموح لك؟"، فتردّ بالإيجاب وهي تمضغ قطعة خبزٍ مع شريحة لحم لا لون لها. "الممرضة لا تعلم.. الطبيب قال لي أنني أستطيع أن آكل كلّ شيء، لكن الممرضين هنا يعقّدون الأمور..".. كان الأوان قد فات لتسترجع سلمى كأسها الذي قد يتسبب بمصيبة..

تضغط السّيدة على الزّرّ المخصّص لنداء الممرضة المسؤولة مراراً، ثمّ حين تأتي، تطلب منها جهاز تحكّم للتلفاز. تغيب الممرضة، ثمّ لا تعود. تضغط مرّة أخرى على الزّرّ.. ثم مرّتين.. تطلب تشغيل المكيّف وإذ به معطلاً. تهاتف الممرضة عمال الصّيانة، وتغادر.. ولا يأتون. تضغط السّيدة على الزّرّ. يتنهّد الزّرّ. تسألها سلمى: "ماذا تريدين؟"

"أرغب بالذهاب إلى دورة المياه"

"انتظري حتى تأتي الممرضة"

"لن تأتي.."

"أساعدك؟"

قبل أن تجيب السّيدة، تستعد للوقوف. آلام ركبتيها لا تثنيها عن الوقوف وحدها في حين لا تكاد تقوى على حملها.. تنقُل يدها المعلّقة بكيس المصل وأكياس أخرى لمسكنات ومضادات التهاب غزا صدرها البارحة.. ثم تسحب أعضاءها تباعاً حتى تنزل عن السرير..

تُسرع سلمى لمساعدتها..

يتّكِئ المرض على المرض.

 تساعد قليلة العزم شبح السّيدة على الوقوف، وتوصلها إلى باب دورة المياه..

ترفع السّيدة يدها نحو سقف الغرفة الذي تؤمن بوجود سماءٍ فوقه يتلقّف دعاء العبد الفقير.. "الله يطعمك سترة فاطمة بنت محمد"، تقول بيقينِ استجابة الدّعاء، كأنّها ليست من قال " المشحّر الله يزيده شحار ".. تتذكّر سلمى نقاشها مع أمّها حول مفهوم السّتر واختلافه عن مفهوم الزّواج وتبتسم، ثمّ تقول "آمين"..

 "لو أنّك لم تقومي دون مساعدة أمس، لم تكن لتكون ركبتاك بهذا السوء اليوم.."، تُتَمتم سلمى.

Jun 3, 2016

دولار واحد



التقَطَتْ لوح شوكولا من على رفّ مزدحم بالأنواع والأشكال،  ثمّ قدّمَتْه للبائع الذي طلب بالعملة اللّبنانية ما يساوي دولاراً أمريكياً بالمقابل.. سحَبَت المبلغ من حقيبتها ودفعته ثم التفتت إليّ وقالت بطرافة: "سعره يساوي سعر ربطةٍ خبز"، فضَحِكْتُ.
 منذ ذلك اليوم، كلّما قصدتُ شراء شيء من ذلك الدكان، أقوم بتحويل سعره إلى ما يعادله من "ربطات الخبز". ولعل للقارئ أن يظنّ تلك الصّديقة غير ميسورة مادياً، أو أنّ في نفسها شيئاً من البخل الذي ينتقل بالعدوى ما إن تُحدّثَ أحداً به، لكنّ كلّ ما في الأمر أنّ لها حسّاً مرهفاً يعاني من كثرة التفكير اوالتّحسّر على كلّ إسرافٍ كان لِيُشبع عائلة. 
الغريب في الأمر أنّ ثلث الدّولار الذي كان كافياً غالباً لإشباع طفولتنا من أكياس الذّرة المحمّصة والسّكاكر، لا يكفي ضعفه لِمَلْءِ عيون النّاظرين إلى رفوف المحالّ المكتظّة بما تشتهي الأنفس. وفي هذا السّياق، أذكر يوماً أنّ إحدى الحملات الإغاثية كانت تسعى لتأمين حاجات خمسين عائلة معوزة، ما دفعني لتخمين كميّة الخبز لاستهلاك يومٍ واحد، والتي تساوي حسب قاعدة الصّديقة تلك: لوحَ شوكولا لكلٍّ من خمسة أصدقاء على مدى عشرة أيام. 
هذا لا يعني أنّ على كلّ واحدٍ منّا مقاطعة كلّ منتج يساوي سعره سعر ربطة الخبز أو يتجاوزه.. بل دعوة بسيطة على مشارف شهر رمضان: أن لا نبخل حين تصل أيدينا إلى صناديق التبرّعات، ولا تدنو نفوسنا عند آجال الصّدقات، كما لا تفعل حين تٌفضّلُ البوظة الفاخرة على تلك العاديّة، أو تَطلبُ السّوشي.