Oct 31, 2015

الصديقة المجهولة






الصديقة المجهولة،
تحيةّ طيبة وبعد،
تلقّيت رسالتك منذ أسبوع.
ومنذ أسبوعٍ أفكّر كيف أردّ عليك، وبمَ. ثم قرّرت أن أردّ عليك علناً.
 في الواقع، قد تلقّيت التهاني  بصدور كتابي الأوّل، إن كان بصورة شخصية، أو عبر رسائل نصّيّة، أو حتى إلكترونية. إلا أن رسالتك هي الثانية الورقية. الأولى كانت: "نحن فخورون بك"، والثانية أردّ عليك بها بأنّني حقّاً أفخر بصديقة مثلك.
منذ زمن غير بعيد، اتصلت بي صديقة تنوي زيارتي. قبل أن تغلق الهاتف، بادرتها على عجل :" أحضري معك الرسائل التي كتبت لك عندما كنّا صغاراً". قد تبدو الفكرة سخيفة أن تتبادل صديقتان، تمضيان أكثر اليوم سويةً في المدرسة، الرسائل. لكنّ الجميل حقّاً، كان قراءة الرسائل بعد عشر سنوات. كلمات مكتوبة كما تُلفظ،.. تحيّاتٌ بعد الفراق بلحظات، وسلامات تغيب في اللقيا فترتسم على الورق.. أوراق ملوّنة بكل المقاسات..أقلام ملونة استعملت لزخرفة جوانب الصفحات... وبخطٌ رديء، جداً، كتبنا ما أحزننا حقّاً، وما أفرحنا.. ما تمنّينا، وما كرهنا.. تخيّلي معي لو أنّ النّاس اليوم يتّبعون الرسائل للإفصاح عمّا في داخلهم، بدل الحديث بمكنوناتهم إلى الغير.. ويودعونها أمنياتهم ليعودوا إليها في المستقبل..
 في إحدى الرسائل، كنت قد طلبت منها 20 رسالة متتابعة. لا أدري إن كان ذلك طلباً فعلاً أم قصاصاً.. لكنّها لم تبدِ تذمّراً في أي من الردود بفضل الله. عندما جاءت تزورني، جمعت الرسائل بالترتيب، ثم قرأناها كما كتبت: كل رسالة والرد عليها. لا أنا تخلّيت عن التي كانت قد أرسلتها لي، ولا هي استجابت لرجائي بإبقاء التي أرسلت لها من قبل.
رسالتك أثارت فيّ الحنين للكتابة، وللرسائل، وللأصدقاء.
نعم، الكتابة مسؤولية كبرى. ونعم، نحن نجلس في الصفوف الخلفية نرقب بحذر ردّات الفعل على أفكارنا التي انتظرنا طويلاً حتى خرجت من الفكر أولاً، ثم إلى الناس ثانياً. قد لا يدري أحد أنّ امتعاضه عند القراءة قد يُقرأ بخيبة، كما لا يدري أحد أن دمعة تنزل عند القراءة قد تُقرأ دمعة فرح لوصول المعاني إلى شغاف القلوب. ولا يدري ذاك الذي يطلب الكتاب بلهفة أنّ لهفته كافية لإدخال الفرح إلى قلبي. ليس عملي الأوّل كاملاً بطبيعة الحال. لكنّ كل تصويب أو توجيه أو إعجاب هو دفعة إلى الأمام. ولكم يسعدني أن يكون هو دفعة لكلّ محبّ للكتابة للانطلاق في رحلة الألف ميل.
تلك المعان التي ذكرت، هي تماماً ما أردت أن يصل. وتلك الأمنيات هي ذاتها التي رأيتها تلوح أمامي وأنا أكتب.. وتلك الخطوة التي أسبقك بها ليست أبداً درجة تفصلنا، بل إن عزمك عليها يقرّبنا أكثر.
يسعدني جداً دخول رسالتك إلى صندوقي، كما دخلت كلماتك إلى قلبي.
ويسعدني انضمام كتابي إلى مجموعتك.
ويسعدني دائماً الاستماع إلى خواطرك، كما قراءة حرفك.
دمت بودّ
حنان
October 31, 2014

Oct 22, 2015

2:45 ب.ظ





ذَكَرتُ اليومَ فأرة رماديّة أصغر من قبضة كفّي، فاجأتني بزيارة السّنةَ الماضية.
كنت أستعدّ لصفِّ ما بعد الظّهر، ولمّا يتبقّى الكثير حتى يحين موعد انطلاقي إلى الجامعة. إلتففتُ حول الدَّرَج لأتناول حذائي وأغادر المنزل قبل أن تصل الحافلة فلا أتأخّرَ عليها، ثمّ فتحت باب الخزانة. لا أدري كيف حانت منّي التفاتةٌ إلى الزّاوية بجانبي، وإذ بها تقف مشرئبّة العنق تتطلّع إليّ. لحظاتٌ مرّت ونحن نحدّق ببعض، نفكّر –كِلانا- إن كان علينا الهروب! ثمّ قرّرَت الفأرة أن تتقدّم إلى الخزانة وتعتلي أحد الأحذية فتنظر إليّ بإمعان أكثر..
ما أعجب أمّي من الحادثة كلها كان إجابتي على "ماذا فعلتِ؟".. قلتُ لها أنّني لم أصرخ لأنّ أحداً لن يسمعني.. هذا عدا عن كوني مستعجلةً لاتّخاذ التدبير المناسب قبل أن أغادر.. بحثتُ عن شيء أرشّها به فتخرّ صريعة. ضحكَتْ وقالت: " أتوقّعتِ أن تجديها عندما تعودين؟!". في الواقع، نعم. توقّعت أن أجدها عندما أعود، ذاك لأنّني لم أُخِفْها.. فلمَ الهرب؟ لكنّني لم أجد ما أرشّ عليها فاكتفيتُ بإغلاق الخزانة وحبسها مع الأحذية تفترشها وتقرض ما أرادت منها ريثما يعود والداي ويحاسبانها على دخولها غير المشروع. ثمّ أحكمتُ إغلاق الخزانة بملعقة خشبية مددتها بين المقبضين، وعلّقت عليها ورقة تحذّر من فتح الخزانة لاحتوائها على الزّائرة الصغيرة.
المُهمّ في الموضوع ليس الفأرة، ولا كيف غادرت جثّتها المنزل، ولا حالة الاستنفار التي أحدَثَتها حتّى طُرِدَتْ، بل موقعُها في كلٍّ منّا. كتلةُ الجُبنِ التي تتملّكنّا.. الخوف الذي يسيطر علينا فيجعلنا نصرخ ونستجدي المساعدة حين تُلِمُّ بنا مصيبة، أو تكسر شوكَتنا حادثة.. لو أنّنا فكّرنا يوماً أنّنا وحيدون، ولن يسمع صراخنا أحد، ثمّ وضعنا كلّ حزنٍ نُصبَ أعيننا، وحدّقنا به إلى أن يهرب هوَ، لا نحن.. لو أغلقنا على كلّ اليأس الذي يحيط بنا باب الخزانة وحذّرنا الجميع من الإقتراب منه..
 الكلام لا يُجدي حين نقرؤه أو نسمعه لمجرّد أنّه صيغ بجماليّة في التّعبير.. الخطوة التّالية يجب أن تكون لحظة خلوةٍ مع النّفس نقارب فيها بين الواقع وبين ما يجب أن يكون، والقاعدة رقم واحد يجب أن تكون: "عندما تكون على يقين بأنّ أحداً لن يسمع صراخك، ستقوم بمواجهة الجبان الذي فيك". وحتّى ذلك اليوم، ستبقى تصرخ، وتستغيث، وتستجدي العونَ كلّما مرّت مصيبةٌ من بين قدميك.. أقصدُ فأرةً!
December 22, 2015

Oct 19, 2015

أحذية السّكّر





أغمضت عينيها الصغيرتين ليلاً، فوجدت كمّ الظلام وحشاً مخيفاً أكثر من "أبو كيس" الذي يختبئ تحت السرير.. فتحت عيناً وقررت الالتزام بنصف نومٍ تتلصّص فيه على النور المتسرّب من شقّ الباب، يضمن لها أن لا تفقد بصرها..
لا تدري لمَ تُصرّ أمها على إغلاق باب الغرفة بعد "تصبحين على خير"، لكنّها تعلم أنّها يجب أن تنام باكراً إن ما زالت ترغب في أن تكبر سريعاً.
نامت على جانبها الأيمن، ضمّت ركبتيها، وخبأت كفّيها بينهما، لكنّ روحها رفعتهما دعاءً كي يأتي الصباح بسرعةٍ وينتشلها من وحدتها تلك.
أنهت طقوس الدعاء والخوف والقلق، ثمّ تذكرت دكان جدتها. ذاك الدكان الغني، وتلك الجدة المحظوظة. كيف لشخص أن يحلم بأكثر من ذلك؟ أن يكون قادراً على شراء ما يريد دون أن يدفع.. أن يحتار بمَ سيبدأ صباحه، لا بمَ سيكتفي من أشكال السكاكر وأنواع الحلوى.. ثمّ ألم يكن الأولى بمن صنع هذه الجنّة أن لا يجعلها ممّا يؤذي الأسنان؟ ولمَ سلّم مفتاحها لهذه العجوز؟
أتُراها تعطيني إيّاها عندما أكبر؟ سأسمح لها بأخذ ما تريد متى تشاء.. عندها سيكون القرار لي.. ولن أمنع أحداً من الإسراف في تناول جدائل السّكّر، ولن أحضر إلى الدكان إلا الحجم الأكبر من علب العلكة وأكياس البطاطس والذرة المملحة.. وسأضاعف الكمّيات التي أحضِرها من أحذية السّكّر.. لكنّني ربّما سأحتفظ بعلب "السَّحبة" لنفسي.. يمكنكم أخذ بعض المفرقات من العيار الخفيف بدلاً منها.. أو إن كانت الدنيا عيداً، خذوا بعض الإكسسوارات الزهرية أو خرزاً أصفر لمسدساتكم السّلميّة..
ولكي تبتاعوا من عندي، لكم الشراء يومَ الجمعة مجاناً.. لكن.. لحظة.. أنت، أيها الصغير.. لا تفتح شموع البوظة تلك بهذه الطريقة.. لوّثت الأرض! تعال، سأقصّها لك.. خذ هذه المحرمة، أمسك البوظة بها وعد إلى بيتك..
لحظة لحظة، عُد. الاثنان من هذه ب250 ليرة، وأخذت ربطة خبز.. 1750..، يبقى لك 250 ليرة. الحمد لله، بعت ما لديّ من خبز اليوم.. بقيت تلك الربطة آخذها معي إلى البيت حين أنزل.
أحسّت الطفلة بدُوار. جلست مكان جدّتها على الكنبة، تحسست المسبحة بيدها، وبالأخرى أطفأت المذياع. دخل وقت صلاة العصر، عدّلت جلستها لتصلي، نظرت على الأرض، ستكنسها حالما تنتهي.. الدوار يشتد.. أحست بيدٍ تمتد إليها.. تهزّها..
استيقظت.
نظرت حولها.
لباس الطفولة خُلِع عنها..
وال250 لم تعد تبتاع لها الكثير.. امتلأت جيوبها بالمال، دون أن تبقى البركة.. نظرت إلى الباب فوجدته مفتوحاً، لم تعد تغلقه أمّها منذ كبرت، لأنها لن تحتاج الظلام كي تغفو بسرعة.. أبو كيس غادر أحلامها، وأحذية السكّر أصبحت نادرة على رفوف المحالّ.. كما أصبح من العيب أن تأكل مصاصة، ومن غير الأدب أن تأكل كيس البطاطس على حافة الحائط أمام الدكان.
نظرت حولها قليلاً، فعلمت أنها استعجلت طلوع الشمس حين لم تعلم أن الليل سيأخذ الجدة والدكان. أغمضت عينيها مجدداً لعلّ نظرها يعمى عن الواقع..
علّ أبو كيس يأخذها إلى حيث كان يأخذ الأولاد المشاغبين..
علّ زمن أحذية السّكّر يعود..
August 19, 2015