Oct 6, 2013

ياما وياما تفرّقنا





بعد صراع مع نفسي، ها أنا أكتب..
كنت أدعي مداراة نفوس الناس، وتجنب إيقاظ الحزن فيهم.. لكنني أراني لا أخدع إلا نفسي..
فأنا أبخل بدموع لا تعيد غائباً، ولا تسكن وجعاً، ولا تطفئ شوقاً، ولا تنسي فاجعة..
ها أنا أكتب بعد أيام من مغادرتك.. أيام أقرب إلى السنوات.. نمر فيها من أمام دكانك، نلمح طيفك يستقبلنا.. ثم على وقع "الله يرحمها" من أحدهم، نعود للصورة الحقيقية: ورود يتيمة ألقاها أحفادك على بابك.. أحفادك الذين تتولد عندهم تساؤلات كثيرة..
فبماذا نجيب آمنة عندما تسأل عمن فعل بك ما فعل؟
وكيف نقنع آدم أن صديقتك الواقفة على باب دكانك تبكيك ليست أنت؟
وكيف لخالد أن يفهم لم أُخذ ليشتري من غير دكانك؟
أما الأمَرّ، فهو عندما يأتي وقت الغداء، فلا يجد عبد الرحمن ورهف من يتسابقون لينادوها لتناول الطعام..
***
بالرغم من نفوري المعتاد منها، توجهت نحوها هذه المرة. شقراء جالسة وحيدة تحت الشجرة. ناديتها مرات عدة، حتى لحقت بي وصولاً إلى باب الدكان. وضعت لها الطعام بجانب الورود وقلت: " ما عاد في سندويش لبنة أو علبة سردين".
البارحة، كانت الشقراء تخرج من الدكان بمجرد دخول أحد إليه، فاسحة المجال لضيوف صاحبتها.
أما اليوم، تنتظرها عند الباب صباحاً فلا تخرج..
تسبقها إلى باب الدكان، فلا تأتي..
فتجلس بعيداً تراقب الطرقات علّ أحدها يأتي بها..
أيتها الشقراء..
حرمتك يد الغدر من يد حانية، ووجبة طعام..
وحرمت صديقاتها من "صبحية" وفنجان قهوة، في النهار ذاته الذي أوصتهن فيه أن لا يتأخرن عليها في الأيام المقبلة..
وحرمت الطلاب المتوجهين إلى المدرسة من السلام عليها ذهاباً وإياباً..
أما نحن،..
فحرمتنا رقيا الألم، وبركة الدعاء، ورحمة كانت تحل علينا بركعتين كانت تصليهما الغالية لكل من أبنائها عند الضحى..
حرمتنا الجلوس بجانبها، في قلب الضيعة، نأنس بحلاوة حديثها..
حرمتنا من كأس زهورات، وربطة خبز، وكيلو قهوة، معطرين برائحتها..
كم شهدت الشقراء سؤال الغالية للأولاد: "جايين لعندي، أو لعند الدكان؟".. وها هي الآن ترى الأطفال الذين أغلق باب الدكان بوجههم يجيبون بالدموع..
***
 في الأمس القريب، جلستِ بين والدي وعمتي ترددين بصوت حنون: "كانت حلوة السهر والليالي، وياما وياما تفرقنا.."..
الآن نسمعك ونراك ترددينها عبر شاشة ضيقة، ولسان حالنا يرددها معك..
فها هي الليالي تمر، والفرقة تحرق قلوبنا..
وفي الأمس، رأيت من رأيتِ من أحبابك، الذين سبقوك، في المنام،.. وعلّلت ذلك بشوقهم لك.. قال لك والدي حينها مازحاً: " لي بدو التاني بيجي لعندو..".. لم يدرِ أنك أردتهم أكثر..
جدتي،..
نحن نريدك أيضاً..
وسنأتي إليك يوماً..
عسى أن يكون قدومنا إليك بكرامة ذهابك عنا.. فتهبّ من جثاميننا رائحة الطيب، كما هبّت منك.. وتهرول جنازاتنا، كما فعلت.. وندفن بجانب أحبابنا، كما دفنت.. وتكون لنا مراتب الشهداء، كما نحسبك ولا نزكي على الله أحداً.
February 6th, 2013