حين يصبح النوم منى العين، والموت منى النفس، وكبسولات
الدواء أمر من العلقم، يكون المشوار قد شارف على
النهاية. هذا المشوار الذي طال بين ثنايا جدران أشد خسة من حراسها، وامتد
بصحبة أكياس البول تتدلى على الخاصرة المقعدة، هو مشروع شهادة أسمى من أن تعلق في
إطار على جدار. هذا هو حال الأسير الفلسطيني في السجون الإسرائيلية: طالب شهادة
يكاد يفرغ صبره انتظاراً لحفل التخرج.
هناك، على فراش لا تزيد سماكته على خمسة سنتيمترات، يصبح
النوم هو الحلم في يقظة قسرية تفرضها الآهات والأنات المخنوقة. وعلى مقاعد
المقعدين، تصبح الحركة شبحاً: في حضوره
الألم، وفي غيابه العجز. وبين هذا وذاك، أكياس البول تتدلى، فيخفيها الأسرى
المشلولون ريثما يأكل الآخرون ما تمن به عليهم إدارة السجن المذلة.
ومن هناك، يرسل لنا الأسطورة سامر العيساوي بينما روحه
تنازع: "إن نبضات قلبي المتوترة والضعيفة تستمد صمودها منكم أيها الشعب
العظيم، وإن عيني التي بدأت أفقد البصر بها تستمد النور من تضامنكم ومساندتكم لي،
وإن صوتي الضعيف يأخذ قوته من صوتكم الذي يعلو على صوت السجان والجدران".
سامر –المضرب عن الطعام منذ أكثر من ----- مثال بسيط عما يعانيه الأسرى داخل
السجون الإسرائيلية.
فالأسرى، البالغ
عددهم 4660 أسيراً وأسيرة حسب إحصائيات
متطابقة لوزارتي شؤون الأسرى في غزة ورام الله(الضفة الغربية)، يعاني ربعهم (حوالي
ال 1200 أسير) من أمراض مختلفة،
وتعتبر معاناة 170 منهم مأساة حقيقية.
وتصنف حالة 25 أسيرا ما بين الإصابة والاشتباه بالإصابة بمرض السرطان فيما
تؤكد الجزيرة نت معاناة 85 أسيراً من
الإعاقة الجسدية أو النفسية.
وتتراوح الأمراض التي تستغل من قبل سلطات الاحتلال للضغط
على الأسرى وانتزاع اعترافات متهم بين أمراض المعدة، الروماتيزم، الديسك، ضعف
البصر، والأمراض الجلدية. كما تتأزم حالات أخرى بسبب الضغط والسكري والربو والفشل
الكلوي والشلل النصفي والكلي.
وبينما تنص المادة 89 من اتفاقية جنيف الرابعة حسب
المركز الحقوقي أنه يجب أن "تكون
الجراية الغذائية اليومية للمعتقلين كافية من حيث كميتها ونوعيتها بحيث تكفل
التوازن الصحي والطبيعي وتمنع اضطرابات النقص الغذائي ” ، تقدم وجبات غير كافية
للأسرى، وغير ملائمة للمرضى الذين يعانون من السكري أو الضغط.
بل ويستغل السجانون الأمراض كنقاط ضعف للأسرى،
فيهملونهم ويماطلون في العلاج وإجراء العمليات الجراحية، ويقدمون الأكامول وكأس
الماء كعلاج لكافة الأمراض. ويتم تشخيص الأمراض جميعها بالنظر بالعين من قبل طبيب
عام، ثم معالجتها بالمسكنات إلى حين يعتاد الجسم عليها ويفقد مناعته تجاهها فيتم
تبديلها.
وتفتقد
مشافي السجون إلى الأجهزة الطبية لذوي الاحتياجات الخاصة، كالأطراف الصناعية،
والنظارات الطبية، والبخاخات لمرضى الربو. كما لا يوجد غرف عزل خاصة للمصابين
بالأمراض المعدية فيقيمون مع غيرهم من الأسرى، ولا سيارات نقل للمرضى إلى المشافي
فينقلون مكبلين بشاحنات عديمة التهوئة، ولا غرف عمليات معقمة فيتم توليد الأسيرات
وهن مكبلات من قبل طبيب عام. وقد يبدو من الطبيعي غياب كل ما ذكرت حين نعلم أن
أكوام الدواء التي تقدم للأسرى تكون في بعض الأحيان منتهية الصلاحية.
قعدان-
أسير مضرب عن الطعام يعلل صبره من خلف القضبان بقوله:" حسب وجهة نظري على
الأقل، فإن نبع الماء العذب يجب أن يكون
دائماً في عل ومرتفعا حتى يفيض فراتا سائغا للشاربين وسعيا به لئلا يتكدر أو تصيبه
الشوائب، وهذه هي فلسفة حياة الصعاب والمخاطر التي نحيا مقابل ألا نعيش بين الحفر،
وهي مرتبطة أشد الارتباط بمصداقية المبدأ الذي نعتقد به والمشروع الذي
نحمله".
ويأتي صبره هذا
صبرا على ما وصفه فؤاد الخفش- باحث ومتخصص في شؤون الأسرى الفلسطينيين ب"حيث
الموت ولا موت، والمرض ولا دواء، والآه بلا ألم ، حيث يدمن الجسد على أنواع دواء تبدل كل فترة وكأنك بحقل تجارب
لمكان يديره أناس تقطر من عيونهم الخسة والخباثة والابتسامة الصفراء ابتسامة
المتلذذ بآلام الآخرين سادٍ بكل ما تحمل الكلمة من معنى."
ويرتقي العديد من الأسرى بعد أسابيع قليلة من إطلاق سراحهم بسبب حالاتهم
الصحية السيئة، فتكون السلطات الإسرائيلية بذلك ألقت عن عاتقها المسؤولية. فالأسير
زكريا عيسى استشهد بعد 4 أشهر من إطلاق سراحه بمرض السرطان. أما الأسير المحرر زهير لبادة، فاستشهد بعد أقل
من أسبوع على تحريره بسبب الفشل الكلوي. آخرون كالشهيد عرفات جرادات وميسرة أبو
حمدية ارتقوا في مشافي السجون بعد معاناة مع الإهمال الطبي.
ويبقى الأسرى عالقين في صراع بين الروح والجسد: الروح حبيسة جسد خائر
القوى، والمفتاح بيد خالق هو أدرى بمقاصد الأمور. وبينما ينتظر ون الفرج، يتدفق
الهواء رغماً عنه إلى الرئتين، ثم يُزفر إلى الخارج حاملاً ما يستطيع من الوهن، إلى
أن يكتب الله أمره.