حنان.. سألتني قبل عدة أيام سؤالاً عرضياً لم يخرج من رأسي بعد. سألتني لماذا يوجد جواز سفر على منضدتي. وقلت لك، عرضا، "لكي أذكر نفسي كل يوم بأنني سأرحل".
البارحة فقط فكرت في عظمة جزئية جواز السفر في فسيفساء حياتي. لدي اثنان، جواز منتهي الصلاحية يلازمني في الجامعة منذ أن أضعت بطاقتي الجامعية، وجواز صالح للاستخدام، يرقد على منضدتي منذ ثلاثة أشهر وعشرين يوما. ترتب أختي الغرفة فترميه في أحد الأدراج، ثم لا أعي كيف تهتدي إليه أصابعي لأجد نفسي في اليوم التالي أقلب صفحاته بلا وعي، أمرر أصابعي فوق الختم حتى لكأنني بدأت أمحو حبره.. وأتركه مجددا على المنضدة.
حنان، وصلت حدا من التشتت لم يعد بمقدور إنسان أن يحتويه. وحين أخلد كل يوم إلى فراشي يخيل إليّ أن قلبي يتفتت تحت اللحاف، وأحس أن أجزاء منه تتلاشى في قلب الفراش، وفي فضاء الغرفة، وأراها كل ليلة وهي تبتعد عني. يهتدي بعضها طريقه إلى جواز السفر، وأرى الغلاف يبتلع تلك القطع مني، يمتصها عبر جلدته الزرقاء. وعلى عكس ما قد يتبادر إلى ذهن أحد، فأنا لا أشعر بالألم، ولا أحس بالفقد حين يحدث هذا.. إن كان هنالك شيء يحدث في كل ليلة عندما يتلاشى قلبي فهو أنني أحس به ينتزع من جسدي بكل روية وسكينة.. وسلام حلف منذ زمن لا يزورني زيارة طبيعية.
صفعة الألم تأتي عندما يرحل كليا، ويترك في صدري خواء تاما، وجسدا يرى ما يحدث ولا يستطيع الحراك.
إننا نرى بعين القلب يا حنان. ونحس بأعصابه. هذا ما خلصت إليه تجاربي الليلية. لأنني أراها كل ليلة. وأحس بها. كل الأماكن. تؤلمني كلها. هل أخبرتك يوما أن كتفي يؤلمانني في النهار؟ الشلل أمام الشوق أمر شاق جدا. يشبه نزع الروح.
أتحدث دائما عن حنين الأماكن. ولا أستطيع أن أقول للناس أن هذا السيناريو يحدث كل ليلة، وأن في غرفتي، على منضدتي، مطار صغير يسافر منه قلبي كل ليلة إلى أماكن بعيدة، مغبشة. يطمئن هناك، ويترك لي جسدا يئن تحت وطأة الذكريات، وعقلا يكاد التفكير يجهز على شروشه.
هاك.
هذا هو سر جواز السفر.
أنا مغتربة يا حنان.
-بيان ٢٠١٧
************************
بيان،
العزيزة بيان.
قلتِ إنك ستقرئين رواية فاقد الهوية مجدداً، ولو أنك تقرئينها الآن ستجدين إجابات كثيرة لسؤالك الذي تظنين له إجابةً.
"في كلٍّ منّا غربة، عن شيء، عن شخص.. عن وطن".
ما الرحيل الحقيقي إلا ذاك الذي يبعدنا عن مسرّاتنا، وما الغربة الحقيقية إلا ألّا تدركي النقص الذي يعتريك. ومتى عرفته اهتديتِ.
إن جواز السفر ذاك، الذي يربض على المنضدة، يوهمك أن في صفحاته انحلال قيدٍ، وأن فتْحَهُ إشراقة شمس، وأن سبيلهُ شرفةٌ مفتوحة على مصراعيها إلى الجمال. ولكنك تعرفين تماماً أنّهُ ذاتُه الذي أخذ أخاك بعيداً، وجعل اللحظات المسروقةَ معهُ ألذّ من أي حلم.
إن السفر حلم واعدٍ، لكنّ ضريبته مرتفعة. وكل ما يندُرُ يغلو.
هل حقاً تريدين لقلبك أن يتشظّى بين بلاد كثيرة، فيما لا يكاد يهنأ بسكونِ كفردينس حتى يعود إلى الرفيد، ولا يكاد يأنس بالرفيد حتى يغزو كفردينس!
عجباً لغربة تُغرينا، حتى إذا ما تورّطنا تلوّحُ لنا طرقات العودة وهي تبتعد إلى غير رجعة.
المغترب يا بيان هو من لا يملك أحلاماً، من لا يملك أهدافاً، من لا يعرف مَحَطّاً لترحال روحه، ومن لا يملك مؤنساً لوحدته.
فيما عدا ذلك، كل البلاد أوطان.
أنا لك وطن، ريثما تجدين وطنك.
والسلام على غربةٍ ما لك منها غير حروفها.
-حنان ٢٠١٧.
************************
أقول لك دائماً.. أنت العقلانية يا حنان. ولم تخيبي ظنوني قط!
حنان.. ذكرتِ رحيل أخي. لقد كان هذا قبل أربعة أعوام. لن أقول لك إنني اليوم أكبر بأربعة أعوام لأنها في عداد العمر مدة قصيرة. ولكنني سأقول: لقد كبرت ربما مليون موقف وثلاثمئة مليون معلومة، والقلب يكبر بوتيرة أسرع من العمر!
ولن أقول لك إن الفراق هين، ولكن بعض الأشياء جميلة بألمها، وإن للوحدة عندي قدسية خاصة. أخبرتك مراراً عن دائرتي الضيقة. ربما ضيقتها عمداً حتى أختصر لوعة الألم على معارفي عندما يحين الرحيل. حنان.. الكلام عن الرحيل ولوعته ليس كالحديث عن أن الشمس تطلع من الشرق. وقد علمتني الأيام أن الفراق ليس سيئاً إلى ذلك الحد الذي بدا لي في عمر السابعة عشر.. وإن كنت سأتحدث عن لوعة الفراق فهي، كما قلت يوماً، للمرتحل عنهم.. وليس للمرتحل.
إياك يا حنان أن تقولي إن المغترب لا يملك احلاماً، أو أن جعبتنا فرغت من الأهداف.. ولو كانت خاوية لما سهرنا حتى ينبلج نور الصباح، تقتات أحلامنا على ألقِ عيوننا وعضلات جفوننا. بعض الأحلام ثورات، لا تعرف القيد أيّاً كان نوعه. والحدود يا حنان مهما اتسعت رقعة الوطن، سجن. والثائرون تحكهم الحدود كما تحكهم القيود. لا تخطئي فهمي. لا أقول إن القيود عيوب. ولكنني أنا، عن نفسي، لا أحب القيد أيّاً كان.. ابتداء من ربطة العنق!
والأحلام كأصحابها.
عودي إلى سطوري إلى حيث قلت: وصلت مرحلة من التشتت لم يعد بمقدر إنسان أن يحتويه. لا زلت أثرثر وأنا أعلم أنك لن تفهمي ما يدور في فؤادي من ملاحم.
حنان.. أنا لا أهرب من أحد. ولا حتى من واقعي. ولكنني أؤمن أن هذا العمر أقصر من ألا أرى من آيات الله سوى هذه الذرة من التكوين. البارحة كنت في السابعة عشر. غدا سأصبح في السبعين. وهنالك 7 مليار بشري على هذه البسيطة.
فلسفتي في الفراق أن هذا الدنيا أقصر من أن نقف عند كل شخص "كتمثال" مقدّس لا نستطيع تجاوزه. الأرواح أسمى من الأجساد. ثمة وطنية القلب، ووطنية الذاكرة، ووطنية الجسد. وكل ما يترفع عن المادية حب ووطن وإيمان.
إذا كتب الله لي الرحيل ستؤمنين بوطنية القلب. وستعتنقين وطنية الذاكرة.. وستكفرين بوطنية الجسد. إلى ذلك الحين.. لك رقعة في وطني لا تعرف الحدود، ولكن لا تزيدي علي.. ولا تجوري على أملاك الغير!
مساء الخير يا حنان ❤
-بيان ٢٠١٧.
************************
تدركين أنّك انزلقتِ إلى هذا السّجال الذي رجوتك طويلاً أن نفتِعَلهُ، وأراني أفرح به أكثر من إقناعكِ برأيي أو اقتناعي برأيك. لكنّ أجمل جزءٍ فيه هو تَتَبُّعُه وجهاً لوجه. مجدداً، لا أريد أن أكتبَ لبعيدٍ. اعذري اختلاط الأمور والمفردات هنا، ولك حرية إعادة ترتيب الجمل، فكُلّها يجب أن تأتي أولاً، ولا متّسع في المقدمة.
العقل والجنون أخوان، بيان، ولا أظنّك تجهلين هذا. والخيط الذي يفصلهما رفيعٌ متينٌ. فمن أفرط في الجنون تدفّقت الحكمة من فاهِه، ومن أفرط في التعقّل داس عتبة الجنون.
القلب يكبر بوتيرة أسرع من العمر، أيْ نعم! ولربّما أردْتُ أن أبقيَ عليكِ في دائرتي الجغرافيّة فيما يبتعد الآخرون. لم تعد تُقنعني المكالمات الهاتفية ولا المحادثات الجماعية عبر تطبيقاتٍ جُلُّ اختصاصي تطويرُها! وفيما يهرول العالم إلى التكنيّة أراني أُسحَبُ إلى الرسائل والظروف. وفيما تُمسكين بآلة التصوير، أنظر وأبتسم.
لكلٍّ مكانه، ولا يصلحُ العالم إن غاب حقّ الاغتراب في إيجاد مناهض له، ونصير.
لكن انظري إلينا نكتب عن نهرٍ، نقف متقابلتين على ضفّتيه. لقد مدحتُ الأحلام َوالتطلعاتِ والأهدافَ والوطن، ولقد تبنّيتِ السّفر والارتحال والأهداف.. والوطن. نحن لا نشهر سيوفنا هنا، بل نصف ما تراه "عين القلب"، تماماً كما قلتِ. وإنّ " العمر أقصر من ألا تريْ من آيات الله سوى هذه الذرة من التكوين"، لكنّه أقصر من أن نفرّط في لحظاتٍ أثمن من أن توصف بعد الفراق الأخير. و "إن الدنيا أقصر من أن نقف عند كل شخص كتمثال مقدّس لا نستطيع تجاوزه"، لكنّها أعزّ من أن نتجاوز بعضَهم، وإلا لمَا وقفنا عند غسان.. وإن "الأرواح أسمى من الأجساد"، لكن شيئاً لن يعوّض عناقاً طويلاً في لحظة بؤس. وإنّ أبشع صور "المادية" جواز سفر يُحَجِّمُ حقّ شخصٍ في الترحال. وإنّ القيودَ تنتظر الثائرين في كلّ المطارات، وعلى كلّ الشرفات، حتى لكأنّها تنتظرهم على شفة كوب "نسكافيه" بديعِ التصميم.
إنّ الثورة نعمة، وإن السكون أخاه. وما تلك إلا نارٌ تُغيظ الساكن حتى يتحرك، وما هذا إلا ماءٌ يحاول جاهداً أن يُشذّب ألسنة اللهب. أنا أتكلم عن غربةِ القلب، وأنت عن غربة الجسد. أنا عن فراق الأحبة، وأنت عن فراق الأماكن الذي يزيدها جمالاً ويزيدنا انبهاراً بعظمة الخالق.
بعض الناس لهم دوائرهم الضيقة، وبعض الناس يَسرُّهم "قيْدُ" الدائرة.
وخير الأمور الوسط..
فإن حدث وأمسكتِ بجواز سفرك، خذيني معك بين أوراقه،.. كي تعودي.
صباح الخير، لأن الكتابة لك لا مساء لها.
-حنان ٢٠١٧.
***
صباح الخير لك يا حنان، مساء الخير لي. عزائي من هذه الجملة أن الصباح الذي يرحل من عندك يشرق عندي. لا زلنا نتقاسم الشمس نفسها وإن غربت خيوطها عن فنجان الشاي الأخضر وكل الوطن. تختلف الدلالات. الصبح عندك مساء عندي، وهذه النص هنا يحتمل وجهاً آخر:
الشلل أمام الشوق أمر شاق جداً. يشبه نزع الروح.
أتحدث دائماً عن حنين الأماكن. ولا أستطيع أن أقول للناس أن هذا السيناريو يحدث كل ليلة، وأن في غرفتي، على منضدتي، مطار صغير يسافر منه قلبي كل ليلة إلى أماكن بعيدة، مغبشة. يطمئن هناك، ويترك لي جسداً يئن تحت وطأة الذكريات، وعقلاً يكاد التفكير يجهز على شروشه.
هاك.
هذا هو سر جواز السفر.
أنا مغتربة يا حنان.
بيان. ٢٠١٨.
***
صباح الخير، ظهيرته، ومساؤه، طالما أنه لا يمس كلماتنا.
أذكرك كلما رأيت حقيبة.
هل تعلمين أننا في الوطن هنا نحمل حقائبنا كالأوزار، ترمقها أعين سائقي الباصات شزراً وتخاصمنا كي ندفع أجرة مقعد آخر بسببها، كأنه ينقصنا أن تصبح جليستنا هي الأخرى بعد أن اثقلت كواهلنا.
الشوق للوصول يعشش فينا، تؤجج ناره الغربة، وتزيد من مصداقيته الحقائب والرسائل والتذاكر والجوازات..
نحن صباحاً نتمنى المساء، واليوم نتمنى نهاية الشهر، والشهرَ نتمنى نهاية الفصل الدراسى، والعامَ نتمنى أن نكبر، وغداً نتمنى أن "نرتاح" وفي ذلك بذخ الوصول، لكنه وصول زماني.
أما الأماكن فتتمايل في مخيلاتنا بشقاوة أكبر، وتهتز لها قلوبنا، وتبتسم لها بحزن خواطرنا. ولا ندري هل العودة حلّ أم مشكلة أكبر، ولا ندري هل ما نريده وسوسة نفس أمارة بالسوء، أم مُنيَةُ قلب مؤمن، ونعلق في شباك أسئلة لو أننا لم نغادر لكان آمنَ لنا من أن تصيدنا... لكنها المغامرة، نكهة فريدة نسعى جاهداً لنيل نصيبنا منها.. لعلها تكون فصلاً جميلاً في قصة حياتك مستقبلاً، أظل دائماً صاغيةً وفي - شوق- لسماعها.
حنان ٢٠١٨.
***
أي مغامرة يا حنان تلك التي نجدف في خضمّها بسواعدنا، دموعَنا، كي نصل؟
يدفع اليوم نظيره، وتنسدل على الرزنامة صفحة جديدة. ولا يتغيّر الشباك أبداً. والطريق أبداً. والسيارات. وفي زحمة السيارات المتّجهة إلى عملها كل صباح، تحمل في قلبها أشخاصاً جاؤوا من أماكن وقعها في آذاننا وقع الأغاني المكسيكية، تجدين نفسك أمام السؤال.
تجر الأيام نفسها على رجل خمول. على ذاكرة صدئة. ثم في ليلة لا قمر فيها، بل رسالة صغيرة من ماضٍ كبير، تعصف خواطر وتهيج هلوسات، لكنها لا تؤلم مثل صعقة الحقيقة حين تضرب عامود المنطق في الرأس. قد كنت أواريها في سرداب في قعر الدماغ، وأحمّل القلب ذنباً كاذباً. لكنها كلمع البرق في سماء لا قمر فيها: الوطن أخفض سماءه وأطفأ نجومه وضيّق حدوده، ودفعنا ببطء نحو خيارات كنا نبيعها لنشتري صباحاته الحميمة. ثم أخبرنا أنه باع الحميمية لأجل كسرة خبز أخرى.
شقي هو من جادت عليه الأرض ببطاقتي هوية، ثم جلست ترقب أي الأرضين يمزق قلبها. أو، أي الأرضين تمزق قلبه.
ثلاثة شهور في الغربة تنير دواجيكِ ببصيرة عجيبة: تفهمين لماذا يطفئ والدك الأنوار قبل النوم، لماذا لا تغفو أم قبل أن توضب الطعام في الثلاجة، ولماذا تدأب عجوز، عند انبلاج الضوء وانقشاعه كل نهار، على رفع وإسدال الستارة على النافذة التي لا تتغير أبداً. والطريق أبداً. والسيارات. وفي زحمة السيارات المتجهة إلى عملها، تحمل في قلبها أشخاصاً جاؤوا من أماكن وقعها في آذاننا وقع الأغاني المكسيكية، تجدين نفسك أمام السؤال:
هل نتسول حضن الوطن بالقناعة؟ أم نشتريه بالجدارة؟
بيان ٢٠١٨.
***
أمس يا بيان أعطتني أمي شالاً بدل المظلة التي اكره حملها؛ قالت شتاء بيروت سخي، خذي هذا وقِ نفسك خير السماء متى زاد.
ثم احزري ماذا؟ أمطرت السماء حبّات كأنها الصنبور الذي لا يعرف له زرّ ولا قبضة تعيده سدّاً منيعاً في وجه الماء المتدفق، ولم يكن لي إلا أن وضعت الشال على رأسي ستاراً من الماء. بعد أن تبلل الشال، وأصبح خرقة تزيد حِملي تحت الماء المنصب، فكرتُ في الشال والمطر وأمي. الوطن هو الشال يا بيان، لا يردّ المطر لكنه يعطي أملاً في مواجهته، فقط لأنه من أمي. أما أنت يا بيان، فقد خلعت معطفك وغطيت رأسك به. يرد المعطف الماء، فيما شالك في حقيبتك. هذا الفارق بيننا، أنت تردين عنك المطر وتحفظين وطنك في قلبك، وأنا أحاول حاملة الوطن مبللاً بانتظار شمس تشرق فتجففه.. وكلٌّ سبيلها فيه منطق، وكلٌّ لها الخيار أمام باب السماء.
أقول لك كما قال السائق حينها: "ان شاء الله ما بيزيد الخير" في إشارة إلى المطر. لم يرضَ حتى أن يبدل له صفته. وأنا أقول لك احفظي شالك حتى إن فاض الخير لجأت إليه، وإن ساعدك المعطف الآن. يوماً ما سيبلى المعطف، ولن تجدي الدفء إلا في الشال، حتى لو صار بالياً عتيقاً،... ففيه من رائحة الأم.
دمت بود
حنان ٢٠١٨.