Apr 29, 2013

أكلت ولدي -قصة مستوحاة من الواقع

ملاحظة: هذه القصّة مستوحاة من حادثة وقعت منذ ما يقارب السنتين بين سوريا ولبنان*
____________________________________________________


اصطفينا، سبعةً، مرتجفين..محاطين بالخوف والهلع، نتحضر  لنشم رائحة الموت ببطء عقيم.. لكن الآتي كان أفظع بكثير.. كنا ننتظر شرف نيل شهادة، فحظينا بمسرحية ثلاثية الأبعاد: لأصحاب القلوب القوية، وللبالغين فقط.
كنا، السبعة، تحت الثامنة عشر. لكن الضيوف أصروا على أن نلعب دور الحضور.
منذ لحظات، طرقوا الباب بعنف...
ولأن الوالد خرج من قبل روحاً، وعاد ذكرى محمولة على نعش، قمت، أكبرهم، أفتح.. وليتني لم أفعل.
منذ لحظات، طرقوا الباب بعنف...
ولأن الراحل سند الظهر.. ولأن السند ترك الظهر مقصوماً وغادر.. جاء من يطرق على الظهر ويغرز فيه الصورة تلو الصورة..
أتراه لو لم يرحل، لم يكن الباب ليُطرق؟ أم أنه كان سيصطف إلى جانب الحضور؟
 أتراه كان سيحتمل المشهد؟ أم أنني فقط من يطأطئ رأسه عند "المشاهد العنيفة"؟
اصطفينا، نحن السبعة، أشباحاً خائفة بدل أن تكون مخيفة.. يلوح الذعر على مقلتيّ كلّ منا.. أصغرنا رضيع ملقى على الأرض، لم يبلغ أسبوعه الثالث.. هو أكثرنا يتماً، وأكثرنا نقاءً، وأقلنا خوفاً، وأقصرنا عمراً..
أخذوا ما بقي من والدينا، ومثلوا فيه المسرحية..
أتحرك لأقطع المشهد وأشتت الأبطال، فتمتد الأيدي إلي تكبلني وتثبتني.. أصرخ، فتختلط صرخاتي بصرخات الممثلين وأشقائي –الحضور .. أتوسل أن يتركوا يدي لأضم رأسي وأخفي عار عجزي.. لا أريد أن أقطع المشهد بعد الآن.. ولا أن أحضن إخوتي، أحجبهم عما يحصل.. بل أن أدفن نفسي حياً، أخفي ذلّي..
انتهى المشهد الأول.. وتغسلت الشاشة بالدّموع..
فاصل صغير أخذناه، نتحسس حناجرنا إن كانت ما تزال في مكانها بعد الشهقات والصرخات.. ثم عدنا.
أخذوا أختي التي تصغرني بقليل واقتادوها ترشدهم إلى المطبخ..
انتظرت صراخها.. أورائحة دماء.. لكن أيّاً لم يأتِ..
ومرت الدقائق ثقالاً، نريد لها الموت بأهون الطرق.. فالمرّ هو الموت، والأشنع هنا: الوسيلة..
لكنّها لم تمت..
بل عادت، والصدمة على محياها،.. في يديها قدر كبير من الماء المغلي..
المشهد هذا كان سريعاً، ارتقى فيه الرضيع مسلوقاً..
 أم فاقدة الزوج، مسلوبة الشرف، "مسلوقة الابن"، تصرخ.. يشق صوتها سكوننا.. مذهولون، نحن،  من الوحشية، مشفقون عليها.. حتى أننا نسينا أن الرضيع هذا كان لأيام أخانا..
صرخت حتى تعب الصراخ منها.. ولم تتعب.. بكت حتى جفت مدامعها،.. ولم تتعب..
تركوها تلطم نفسها وتضرب، بعد أن استحال عليها انتشاله.. تركوها في الفاصل الثاني تغص برؤية شطر من روحها، دون قبلة أخيرة، تهرول ثم تطير...
غصّينا ونحن نبلع مشهداً آخر..
كنا قد اكتفينا، وظننا أنهم اكتفوا.. صرخت الصغيرات أن اتركونا،.. ظناً منهن أن الوحوش الكاسرة انتهت من الوليمة.. لكن الوحوش كانت قد أنهت لتوّها المقبّلات..
بدت على الممثلين الرحمة.. أخرجوا الطفل، ذائباً لحمه، وقربوه من أمي تشمه وتقبله وتودعه،. لفّها الصمت..
عانقته بنظراتها، خائفة من أن تؤلم شفتاها جسداً لا روح فيه.. ثم شيعته بهزات من رأسها قبل أن تبدأ فصول المشهد الثالث..
قربوه مرة أخرى، قالت خذوه.. أبعدوه عني،.. لكنهم أصروا..
أصرّوا، أن يتمتعوا بلآلئ عينيها تنهمر بغزارة..
قالوا: كُلي منه!
"نعم؟؟؟!!"
أعادوا: "كلي منه!!"
ارتعبت.. هزت رأسها وانتفضت.. لوت عنقها ورفضت.. ضحكت..!
أتراهم جنّوا؟ يضحكون سُكراً، وأضحك هلعاً! أحسّ باقتراب موعد التصفيق.. لا يمكن أن تكون للمسرحية مفاصل هزلية أخرى..
أعادوا الأوامر.. وعادت تنتفض.. كالأرض تلفظ من رحمها الحمم..
الخمسة..
أصبحوا خمسة بجانبي،.. مصطفين  كالألف.. لا يجرؤ أحدنا على التنفس.. خائفون  من اللحظات الباقية، غير مدركين أن للرحيل طعماً آخر بعد أن يسبقنا الأحبة..
 غير مدركين أن الركام شمسُ الغد، والدخان ندى الصباح..
قالوا: "كلي منه!"  فأبَت..
وإذ بحدًّ كان يقطع الخضار البارحة، يجتاز مغصوباً رقبة الصغرى فينا.. فهوى جسمها، بجانبه رأسها متدلياً..
لا أدري لم حدّقت فيها.. ربما لأنني أحسست بالسكين يعبرني أنا لا هي.. ينفر منها الدم غاضباً، فيغطي ثغرها المبتسم وسط وجهها الهلع..
لم تتحرك أمي.. كأنها جسد متيبّس لا حياة فيه.. وكأنها سئمت من اللعبة التي قُطِعت، فلم تأبه بقطعها..
قالوا: "كلي منهّ"..
قالت:"لا!"
رفضت أن تأكل من ثمرها.. فقطفوا الغلة رويداً رويداً.. يتفحصونها.. ثم يدفنونها بوحشية قريباً من الجذور..
اقتربوا من الثمرة الثالثة الهزيلة.. فتشبثت بالغصن، لا تريد أن تهوي عنه..  لكن السكين ذاته هوى بسرعة خاطفة عليها هي الأخرى..
تمددت بسكون قرب أختها تواسيها، وتؤنسها..
سواد عينيها يحدق في وجه أمي.. وأمي صامدة شامخة.. تأبى أن تأكل مما أنجبت..
والثمن بدأ يرتفع.. فثلاث من سبع، كَسرٌ يقارب النصف.. إنما لم ينصف أمّاً في كسر إرادتها..
سمعنا الكلمات ذاتها على مدار دقائق من الجحيم.. "كلي" و "لا".. حتى سلّمنا بمصيرنا.. فعقدنا وتوكلنا..
وتقدم المقدام الصغير إلى الساحة، مقدّماً عنقه ليلحق بتوأمه، موقناً أنما هي زفرات قليلة تلك المؤلمة، ثم يطير.. وهكذا صار.. فطار..
وبمغادرته، كانوا ثلاثة من غادروا، فأصبحنا ثلاثة من بقوا..  وبلغنا عتبة عنوان جديد لمجزرة راحت ضحيتها عائلة بأسرها..
تنهدت وأنانيتي تحدثني أن أتقدم لآستلم شهادتي فوراً وأوفر بعضاً من العناء..فتحت فمي لأطلب استعجال دوري.. وارتعبت!
صرخت أمي "لا"ءها ..لكن بنكهة أخرى أمرّ..  أمي، تلك الصلبة الشامخة تنحني.. أخفضت رأسها ظناَ منها أن إصرارها كان هدراً لحقوقنا.. و أنها إن فرطت ببعضنا، فلن تفرط في الكل..
انحنت..
أغمضت عينيها.. فرأت الأحمر والأسود ممزوجين بصرخاتنا.. صرخنا ال"لا" عنها .. لكن عنادها أصمّ أذنيها..
وفعلتها..
..
أُسدلت الستارة..
إنّما لم يصفق من بقي من الحضور..
ثم فتحت الستارة..
وجهان شاحبان ميّتان، وأنا.. مصطفون، إنما بطريقة ألطف من ذي قبل، على أسرّة في غرفة أعتقد أنها في مستشفى..
لا نعرف أين أمّنا.. لكن صوتها يصل بوضوح من غرفة قريبة..
عرفناها من حرقة في صوتها تتناهى إلى مسامعنا:
:"أكلت ولدي.. أكلت ولدي"..