Apr 3, 2013

السيف أو قلم القاضي الفاضل؟


بعد سبعة قرون من الاختبارات الفاشلة، بدأ العالمان "أوليغ شيربي" – أستاذ في علم المعادن والهندسة في جامعة ستانفورد، و"هيفري لوكهيد" بحثهما المتخصص في السبائك المعدنية وخواصها. وبعد جهد مضن، توصلا إلى ابتكار معدن جديد ذو خواص فريدة.
وعند عرضهما إنجازهما على جمهرة من العلماء، إذ بأحدهم يصيح بأن هذا المعدن الجديد مطابق للفولاذ الدمشقي العريق. وبالفعل، بعد مقارنة المعدنين تبين للباحثين ان المسلمين قديماً كانوا يستعملون نوعاً من انواع "تكنولوجيا النانو". والنانوتكنولوجي هو الجيل الخامس في عالم الالكترونيات، الذي تبلغ وحدة قياسه 1\10000 من سمك شعرة رأس الإنسان.
من هذا المعدن بالذات، الذي اكتشف حديثاً، صنع السيف الدمشقي الأصيل، الذي حمل على حده أنابيب متناهية الصغر هي قمة التكنولوجيا في عصرنا، حتى أن القادة الأوروبيين كانوا يرسلون التجار ليشتروه من العرب بأغلى الأثمان. ومن بين هذه السيوف، اشتهر سيف "صلاح الدين الأيوبي" المعتبر من أهم عوامل نصره وفتوحاته، حيث أنه لم يكن يكتفي بقطع رقبة الخصم، إنما بلغت به الحدة لقطع سيفه أيضاً. وقيل فيه أن الشعرة التي تقع على نصله، كانت تقطع في الحال.
 إلا أن صلاح الدين نفسه، دفع الإدعاءات هذه بقوله: " لا تظنوا أني فتحت البلاد بالسيوف، إنما فتحتها بقلم القاضي الفاضل." فهل فعلاً كان السيف فاتح بلاد المسلمين؟ أم أن الأيوبي صدق في نسبة الفتوحات للقلم؟
الإسلام من منظور داخلي
أسلم رجل من بني سالم بن عوف، وكان له ابنان تنصرا قبل البعثة النبوية الشريفة، فقدما إلى المدينة يحملان له الزيت. لكنه من تمسكه بالإسلام، لزمهما وأبى أن يفارقهما قبل أن يشهرا إسلامهما، في حين أبدوا رفضاً لطلبه. واحتكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى الآية الكريمة:" لا إكراه في الدين"، وأصبحت قاعدة فقهية تمنع إجبار أحد على الدخول في الإسلام عن غير قناعة.
وتساند هذه القاعدة آيات محكمات كثيرات مثل :
"لست عليهم بمسيطر"-الغاشية،
"أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"-يونس،
"فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ"...
فكيف يكون الدين انتشر بالسيف، والشرائع التي نزلت به تدعو إلى غير ذلك؟ وهذا دليلنا الأول إلى كون رسالة الإسلام رسالة تبشيرية لا قسرية ملزمة.
"ثمامة بن أثال" مثال آخر يبرز لنا من مراحل انتشار الإسلام الأولى، وهو سيد بني حنيفة. ثمامة هذا، أسره المسلمون في إحدى السرايا، وكانوا لا يعرفونه. فأبقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده ثلاثة أيام، وعرض عليه الإسلام عرضاُ كريماً في الأيام الثلاثة، فكان يأبى ويقول:" إن تسأل مالاً تعطه، وإن تَقتل تَقتل ذا دم، وإن تُنعم تُنعم على شاكر"، فأطلق الرسول صلى الله عليه وسلم سراحه. وما إن خرج ثمامة حتى توجه نحو المسجد فدخله وشهد أن لاإله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. ثم قال:"والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي..."، فعاد إلى قريش معتمراً، وقاطعهم فمنع عنهم الحنطة حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن ذلك سيعود على تجارته بالخسارة.
فإن كانت معاملة الأسرى بهذه الدرجة من الرحمة، فهل يكون انتشار الإسلام إلا بالكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة؟ وهل يكون غير ذلك حين يأتي رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب الجهاد، فيسأله :"أحي والداك؟" فيقول نعم، فيأمره بقوله :"ففيهما جاهد".
وها هو أبو سفيان يقر بنفسه، بعد عداوة 20 سنة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: "لقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ثم سالمتك فنعم المسالم كنت".
ولم يخرج المسلمون من معركة إلا وفي أذهانهم دروس وعبر. ففي غزوة الخندق، أو ما يسمى بغزوة الأحزاب، حين اجتمع يهود المدينة بقريش وكنانة وأهل تهامة وبنو سليم بعشرة آلاف مقاتل حول المدينة، تعلم المسلمون مبدأ الشورى إذ أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم برأي الصحابة في حفر الخندق. وغرس فيهم الرسول، وهو القدوة، صفات القادة وحثهم على التعاون والمساواة حين شاركهم بحفر الخندق. كما عزز فيهم حسن الفأل ودعاهم إلى الصبر حتى يفرج الأمر. فكانت ساحات الوغى ساحات صقل للإيمان، لا مواضع طمع بالغنائم والسبايا.
إن لم ينتشر بالسيف، فلم الجزية؟
حين حشد الروم جموعهم على الحدود الشمالية لدولة الإسلام، كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى كل والٍ ممن خلفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جبي منهم من الجزية والخراج، وكتب إليهم أن يقولوا لهم:
"إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط، وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم"
فرد عليه الناس:
"ردكم الله علينا ونصركم عليهم، فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئا وأخذوا كل شيء بقي لنا."
فلو كان العرب مستعمرين لا فاتحين، هل كان سيكون لهم شأن أبو عبيدة؟ ولو كانت الجزية قصاصاً، لا منفعة جزاء منفعة، هل كانت سترد لأصحابها؟ وهل كان صلاح الدين الأيوبي سيعيد الجزية إلى أصحابها من النصارى حين اضطر للانسحاب من الشام؟
أوليست دولنا اليوم تأخذ منا من الضرائب أكثر بكثير من الخدمات التي تقدمها لنا؟ وهل يفكر الرؤساء يوماً بإعادة ما دفعنا من ضرائب حين يقصّرون-وفي غالب الأحيان يعجزون- عن تقديم الخدمات الواجبة عليهم؟
أم هل علمنا من أين أتى الغرب بفكرة ضمان الشيخوخة التي لا وجود لها في قاموسنا العربي حالياً؟ لم تكن هذه إلا وليدة حادثة جرت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذ رأى رجلا مسناً من اليهود يطرق الأبواب طلباً للمساعدة، فسأله عمر عن السبب، فعلل الرجل بعجزه عن دفع الجزية. أتدرون ماذا كان رد عمر؟ قال:"والله ما أنصفناك، أخذناها منك صغيراً وضيعناك كبيراً"، فأمر بإسقاط الجزية عن غير القادرين على دفعها، وأمر لهم بالمال من بيت مال المسلمين.
 وأعود لأسأل هنا: هل من يسقط الجزية عن غير المسلمين،  يبغي فيها القصاص والإذلال؟ وهل يكون السيف والترس عنواناً لمن يعفي غير المسلمين من الخدمة العسكرية في وقت هو فيه بأمس الحاجة إلى الجنود؟
الإسلام من منظور خارجي
بقدر ما دل تاريخ الإسلام على سماحته، إلا أن المستشرقين لم يتوانوا عن البحث فيه واستنباط الأسس والقواعد المتبعة فيه والمبنية عليه. ومع أن الكثيرين ضُلِّلوا وخلصوا إلى استنتاجات خاطئة، وصل أمثال "غوستاف لوبون" - مؤرخ فرنسي-و"يوري أفنري" – كاتب إسرائيلي ملحد، عضو بالكنيست، ومؤسس حركة جوش شالوم للسلام- إلى نتائج يؤيدها التحليل المنطقي والتاريخ.
فغوستاف لوبون وصل إلى أن الأديان يستحيل أن تفرض بالقوة، وأن الإسلام لم ينتشر بالسيف، ولو فعل لما بقي إلى يومنا هذا. وأن الدعوة هي السبيل الوحيد لذلك، وبها قهر المغول والأتراك، ووصل القرآن إلى الهند وانتشر فيها مع أن العرب مروا من هناك عبور السبيل، حتى وصل عدد المسلمين هناك إلى أكثر من خمسين مليون نفس. ولم يكن العدد في الصين أقل من ذلك، مع أن العرب لم يفتحوها قط.
أما يوري أفنري فقد سلط الضوء على أن حكم المسلمين لليونان لم يحل دون تسلم اليونانيين مناصب رفيعة في السلطنة العثمانية، مع أن أغلبهم تشبث بالمسيحية ولم يدخل في الإسلام. ولفت النظر إلى المرحلة التي استعاد فيها الكاثوليك إسبانيا بعد حكم المسلمين فيها، حيث كان على المسلمين واليهود حل من ثلاثة: الذبح، أو اعتناق المسيحية، أو الخروج من إسبانيا. فتوجه المسلمون إلى البلاد العربية، لكن ما كانت وجهة المئات من اليهود؟ استقبلهم العرب بالترحاب ولم يُأمروا بالإسلام، بل دفعوا الجزية وتم إعفائهم من الخدمة العسكرية، فسكنوا من المغرب إلى العراق، ومن بلغاريا إلى السودان.
ويتوجه يوري إلى اليهود بقوله: " كل يهودي أمين يعلم تاريخ قومه لا يسعه إلا أن يشعر بالامتنان للاسلام الذي حمى اليهود لمدة خمسين سنة."
مقاربات  واقعية
إذا ألقينا نظرة على تاريخ الكنيسة المعلقة في مصر، نجد أنها جددت في عهد هارون الرشيد. أما الكنيسة المريمية في دمشق القديمة فقد أعيد إعمارها في عهد عمر بن عبد العزيز، ويعود تاريخها إلى القرن الأول المسيحي.  كيف يتم ترميم وإعادة إعمار هذه الكنائـس إذا كان الإسلام ينتشر بالإرهاب، وهمُّه محاربة الأديان؟
وكيف يقارب عدد المسلمين في أندونيسيا والهند والصين ال300 مليون، في حين لم يصل العرب إلى هناك فاتحين؟
لنقم بعملية حسابية بسيطة:
على مدار عشرة سنوات،  وفي أكثر من 63 معركة بين غزوة وسرية وحرب، بلغ عدد الشهداء في صفوف المسلمين 262 شهيداً، وفي صفوف الأعداء 1022 قتيلاً. فإن قيل أن العدد قليل لأن عدد المقاتلين قليل، لنحتسب إذاَ النسب المئوية. سنجد عندها ان النسبة هي 1% في صفوف المسلمين، و2% في صفوف أعدائهم، أي ما يوازي معدله 1.5%.
أما إذا أخذنا الحرب العالمية الثانية مثالاً معاصراً، نجد أنه في حين كان عدد الجنود 12 مليون و600 ألف، بلغ عدد الضحايا 54 مليون و800 ألف، أي ما يساوي ثلاثة أضعاف عدد الجنود وما نسبته 351%.
والخلاصة هنا أن المسلمين لم يعتمدوا في معاركهم إلا على ساحات القتال، بل وأُمروا أن لا يقطعوا شجرة ولا يقتلوا عجوزا ولا امرأة ولا طفلا.   وبالمقابل، تخوض الدول التي تلفق الشبهات حول انتشار الاسلام بالسيف حروباً ضارية أهدافها المدنيون والبنى التحتية والنظام الإقتصادي.
فهل يا ترى ما زال لدينا شك حول مقولة صلاح الدين بفتحه البلاد بقلم القاضي الفاضل؟ أم أننا مصرون على أن نبقى كائنات نانونية تتقبل بسذاجة كل ما يلفق حولها من شبهات؟