Apr 19, 2013

كوبان وخيط

أحمل إليكم اليومَ بقايا من ذكرياتكم: كوبان وخيط.
لا أدري من أين أتينا بتلك الفكرة.. جئت وأخي بكوبين كرتونيين وخيط، ثقبنا قعرهما، ثم ربطناهما بخيط صوفي طويل. ركض إلى الغرفة الأخرى وناداني، فانساب صوته على طول الخيط. هذا الخيط نقل دفء الصوت فقط، وحجب لغة الجسد والعيون، إلا أنه قرب المسافة بين غرفة الجلوس والمطبخ.
قبل الكوبين والخيط، كانت الرسالة. تلاها شريط الكاسيت الشبيه بالرسالة الصوتية. هذه الرسائل لطالما حملت أغاني الصغار لوالدهم المسافر، ودعواتٍ بالتوفيق لإبن حُجب عن النظر، إنما لم يحجب عن القلب.
قبل البريد كان الحمام، ثم توالت السنوات إلى أن وصلنا زمن الكلام بالمجّان. وسائل التواصل كانت كتابية، أضحت سمعية ثم أمست سمعية وبصرية في آن. كانت وسائلَ لتعزيز التواصل الإجتماعي، فباتت، بحسب الدراسات، للإكتئاب عنوان.
أذكر أن مدرسي مادةِ التربيةِ الوطنية أرّقوا أعيننا بتعريف الإنسانِ على أنه كائن إجتماعي، تربطه المشاعر الإنسانية بمن حوله. كما لا أنسى تلك الصفحة من جهة اليمين من الكتاب، التي توسَطَتها صورة موظفٍ يستقبل سيدةً  بابتسامةٍ، في إشارة منه إلى أن الابتسامة ركيزة أساسية في التعامل مع الآخرين ( لا أخفيكم سراً، نحن الطلاب حينها شككنا في نوايا الموظف).
ما كان مني إلا أن بحثت عن حساب أستاذي على إحدى الشبكات الاجتماعية، وأضفته. وبعد السلام والكلام، سألته، كما أسألكم: هل أصبح من السهل الإستعاضة بنقطتين فوق بعضهما بجانبهما قوس عن الابتسامة؟؟ إن كان نعم، فلنبك على الشاشات إذا ولنوفر الدموع!
هو ذاته الأستاذ الذي عرفنا على مفهوم القرية، إذ قال إنها مجموعة أفراد يتشاركون الأفراح والأحزان، وتربطهم باقة من القيم المجتمعية السامية.  لكننا اليوم نرى العالم الواسع منكمشاً، قريةً صغيرةً كبيرة، يصل فيها صدى الضحكة من أقصى الأرض إلى أدناها في ثوان. قريةٌ أقرب إلى مجتمع السنافر. ففيها فرحانُ وغضبانُ ومخترع.. وفيها رسامُ وذكيُ وحكيمُ وأكولُ... إلى ما هنالك من أصناف الناس. 
فيها نعيش هنا وهناك في آن: نأكل هنا ونعمل هناك، نعيش هنا ونحب هناك، نتنفس هنا ونزفر همومنا هناك. وبينما نصارع للبقاء، رمينا على أكتافنا معطفاً سميكاً يكاد يحجب عن إنسانيتنا وعواطفِنا دفء العناق، وسحر البسمة، وقشعريرة المصافحة.
مذ ذاك الوقت، ونحن نؤرخ أيام حياتنا على صفحات حساب إلكتروني، عوضاً عن روزنامة اعتدنا أن نقطف من أوراقها ورقة كلما قُطف من عمرنا يوم. ننشر فيه نجاحاتنا وإخفاقاتنا، أفراحنا وأتراحنا. حتى مواليدُنا والوفيات ننشرها فيه، لدرجةٍ بات فيها من العادي أن نسمع البعض يتمنى الموت، ثم العودة من بعد الموت،ليتفقد بريده، فيرى من ترك له دعاء بالرحمة، أو بكاء عليه.
أليس الأحرى بنا أن نعيش أكثر أوقاتنا بين الناس، وندون ضحكاتنا على جدران الحياة الحقيقية لا الوهمية، أليس الأحرى بنا أن نتفاعل عن قرب؟ نتحدث؟ نتهامس؟
الحضور الكريم،
لست أتهجم على تكنولوجيا النانو، ولا على العالم الرقمي، فاختصاصي ينتهي عند الصفر والواحد. إنما أطلب أن يعود التعبير الجسدي فنّاً في الوصول إلى المتلقي، ولغةُ العيون حرفة في إيصال الرسائل. لا أطلب أن يعود زمن الكوبين والخيط، بل أن يُفسح المجال للأرواح، فيتعارف منها ما تآلف، ويتنافر منها ما اختلف.
 
حنان فرحات
3-4-2013