أحبّ الصبحيات. أحاديث الجارات وحوارات الكبار. أستمع بشغف كمن يلتقط أسرار حرب إلى حديث حول صينية المتة، يشوبه في بعض المرات صوت فرم باقة البقدونس، ولو أنّ الحديث لا يتجاوز في غالب الأحيان روتين الأعمال المنزلية اليومية والموسمية، و"طبخة اليوم". ولكثرة حبّي لهذه الجلسات، اعتدت أن أدرس فيها، وأن أستيقظ باكراً لأجلها حتى صرت لا أعرف مستقرّاً لي في أي غرفة لو زارنا أحد، إلا الغرفة التي يحلّ فيها الزائر. أما عن الزائرين فهم عدة أنواع؛ الأقرباء والأصدقاء المقربون، الزملاء في الدراسة أو العمل، والزائر الخاص بفردٍ من أفراد العائلة. ويكون غالبية الزوار في القرية من النوع الأول، كما قد ينتقل أي شخص من الفئتين الأخريين إلى الأولى بسهولة، وبالتالي لا ضير من استقبالهم في المطبخ. في مطبخ المنزل كنبات تسهّل استقبال أمي لجاراتها أو قريباتها بينما تطبخ أو تغسل الأواني بعد أن تعود من العمل أو في عطلة نهاية الأسبوع، وتلفاز تشغله صباحاً لسماع القرآن الكريم، وخلال النهار لسماع نشرة الأخبار. وكذا في مطابخ ربات البيوت في القرية؛ شيئاً فشيئاً، تصبح أوسع من غرف الجلوس، توقد فيها النار شتاء، وتفرش فيها الموائد صيفاً. يتفنن النجّارون في جعل المطبخ "عملياً"، ويصبح له بعد عدة سنوات شرفة أو مخرج إلى "سطيحة"، تحيط بها شتلات الورد وتظللها شجرة ما أو تُنصب لها خيمة قش أو قرميد في أحسن الأحوال. تلتم العائلة فيه كما لو أنّه الغرفة الوحيدة في المنزل، وتتكاثر على "مجلاه" الأواني والأطباق منذ الصباح الباكر، ثم تقلّ وتكثر حتى حلول الليل. وعندما تكبر العائلة، يزداد ذهاب وإياب الأواني؛ تمتلئ وتفرغ، تتسخ وتنظف. بعد عدة سنوات، يكبر الأطفال. تصبح لهم مواعيدهم وعزوماتهم الخاصة، ومن ثمّ مناساباتهم وأصدقاؤهم وعائلاتهم، فتتغير حركة الأطباق والحلل حسب أيام الأسبوع. تكبر "الطبخة" لعل زائراً أو صديقاً يحضر في وقت الغداء، وتؤكل أحياناً بشهية على الغداء والعشاء ثم فطور اليوم التالي لو كانت بلذة الملوخية أو "الكشك بالبطاطا". يقلّ المتحلّقون حول مائدة المطبخ أحياناً، ويكثرون أحياناً أخرى. يأكلون من موائد أخرى أطباقاً لذيذة أحياناً، وعادية أحياناً أخرى، لكنّ الأكيد ألّا طبق يمتلئ بنكهة الحب ذاتها، ولا طعام يؤكل بالدفء ذاته. يفتقدون تفاصيل كانحناءة الملعقة، ونقوش الطبق، وألوان الأواني، ورفاهية معرفتهم لمكان كل شيء في أي خزانة تقع أيديهم عليها كما لو أن كل شيء ملك لهم. يفتقدون معرفتهم الدقيقة بذوق كل شخص حول المائدة، والنكات التي تغيظه، وأقلّ وأكثر ما يعمر قلبه بالسعادة. في معجم القرية، من لا تدخل مطبخه، لست من أعزّ الناس عليه.
مطابخ المدينة للطهي، ومطابخ القرية للطهي والحب. سأكتشف ذلك لاحقاً.
من روايتي المقبلة