Dec 8, 2021

كل ما لم يبقَ


خاصمت والديّ بيني وبين نفسي عدة مرات.

مرة حين باعوا السيارة الزرقاء الصغيرة. بالرغم من أن الدهر كان قد أكل عليها، وأنا وأخي أشبعناها تمزيقاً وتوسيخاً كحال كل الأطفال، إلا أنني خفت على الذكريات. كيف سيوضع الكرسي الأزرق ذو اللون ذاته في سيارة أخرى. كيف سيكون المشوار بنفس النكهة؟ وهل ستبقى أعمدة الإنارة بذات العدد لو تغيرت النافذة التي أنظر منها؟

في المرة الثانية، كنت قد نسيت السيارة ونسيت لمَ كنتُ مصرّة على استبقائها. لم تكن جميلة أصلاً! استبدلا المدفأة الأسطوانية التي تتمركز وسط المطبخ بأخرى غريبة الشكل. بت الليلة وأنا أفكر كيف لسندويشة اللبنة أن تتسخن بالجودة نفسها، هل ستكون بذات النكهة؟ هل يعقل أن اللذة تكمن في شيء غير حرق الأصابع فيما أمسكها بكلتا يدي وألصقها على حديد المدفأة الجانبي طولياً، ثم يرجوني أخي أن أسخن سندويشته فأوافق بشرط أن يطوي لي عدة مناديل قبل أن يصل باص المدرسة؟ 

لكن الحزن لمغادرة المدفأة ما لبث أن اضمحل حين صار فرن المدفأة الجديدة سيد الموقف. تدخل السندويشة معززة مكرمة، تتمدد هناك فيما تلسعها الحرارة من كل الجهات، لا أصابع تحرق، ولا انتظار يذكر، وكلٌّ يطوي مناديله! رغم تبدل هيئة المدفأة من أسطوانة طولية إلى شبه مكعب ذا فرن، بقي بإمكاننا الالتصاق بها والتمدد حولها في أيام البرد. ولا أعزّ من صوت والدتي توبخنا على الجوارب المحروقة، إلا صوت والدي الذي يوبخنا لحشر أقدامنا تحت المدفأة لأسباب صحية.

لم يطل الأمر كثيراً. ربما عشر سنوات؟ حسناً، طال الأمر. لكن دوام الحال من المحال. كبر أفراد المنزل، وازداد الاكتظاظ حول المدفأة. فاقترح أحد ما مدفأة جديدة، تجلس في الزاوية كضيف، وتنفث الهواء بمساعدة مروحة كهربائية، وتعطي المفعول ذاته. بل إنها أفضل! رفضت. لا أدري إن أعلنت رأيي أو تعاملت مع الأمر كما لو أنه فرض واجب، واكتفيت بالاستنكار في الخفاء، لكن الإجابات جاءت قبل الأسئلة: "له فرن". قلت لا بأس، فدلال سندويشة اللبنة محفوظ، والهدف من التغيير التوسعة، وكلاهما للخير العام. لكن الحق يقال، كان الفرن أبعد عن النار، فالمدفأة المكعبة طولياً تتربع ك"الشيمينه"، كما لو أنها لا تألف إلا الجبن الفرنسي، أو التوست الأميركي. المهم أنها لا تفهم معنى اللبنة، ولا تتسع لصواني الكعك العديدة، ولا لقالبَي كاتو سوياً.   

ما علينا، انتهى شتاء وجاء غيره، وانتقلنا لمّا ازددنا أصهرة وأحجاماً من المطبخ إلى غرفة الجلوس، ولم يعد حتى الفرن الصغير الذي لا يملأ العين في متناول اليد. وفي زاوية الغرفة التي لطالما عهدناها للضيوف، تمركزت مدفأة لا تشبه الماضي ولا الذكريات. كما لو أن عدم وجود فرن فيها لا يكفي، بل إن حديدها حتى لا يصلح إلا للمنظر. بكبسة زر تنفث الهواء الدافئ في الغرفة فأكاد أختنق. وفي كل مرة أسأل نفسي، هل يخرجني ارتفاع الحرارة أو اكتظاظ الصور قي مخيلتي...

---

 بعد سنتين ونصف، ها أنا في منزلي الجديد، أنعي عدم الحاجة إلى مدفأة. "تكفي مدفأة كهربائية صغيرة وسترة سميكة. أو يمكن للAC  أن يعدل حرارة الغرفة فتنسين أن الفصل شتاء". لا يا أعزاء. لا يمكن أن أنسى. صباح مساء، سألفّ سندويشة اللبنة القروية وسط المدينة، وسأسطحها على المقلاة لتتسخن. قد أتناساها قليلاً حتى تكاد تحترق، أو أثبتها بأصابعي كي تكتسب نكهة المدفأة القديمة. والمرة تلو المرة، سأتنهد مبتلعة غصة المدفأة الأولى، والسيارة الأولى، وكل ما لم يبقَ كما كان.


حنان فرحات 

بيروت ديسمبر٢٠٢١