جاء الشتاء يوماً بينما كنا نياماً. لم يطرق الباب حتى.. انسلّ من الشقّ في الحائط حتى وصل إلى أطراف أصابعي فاستيقظت.
أحياناً لا تحتاج الدفء بقدر ما تحتاج الإحساس... البرودة أيضاً تستطيع أن تفي بالغرض.. القطرات التي تتسرّب بانتظام من المكان ذاته، نمرّ دائماً من تحتها مع أننا نعلم بوجودها، ولكننا نعود لنسهوَ فتُبلّلنا.. الصقيع الذي يسير بمحاذاة النافذة فيترك أثره عليه ببخار دون أن يضطر للدخول، لكنه بذلك يدخل.. الغيوم التي تمرّ تباعاً فتحول بينك وبين الشمس.. الإشارات التي تتلقّاها دون وعي، والأفكار التي تتعثّر بها، كلها قد تكون إنذاراً للحاجة بالدفء، وبالتالي مصدراً له.
يكفيك من الشتاء أن تدرك مجيء الربيع من بعده لِتُحبّ وجوده.. فالشيء المُتبَع بالغياب له متعة خاصة.. وكذلك الأشخاص.. إن المسافات التي تفصلنا عمن نحب أحياناً تكون فرصة لتجديد العلاقات والتغاضي عن التوافه التي تنغّصها.. وإن الابتعاد عن الأماكن التي نحب يُكسبها رونقاً خاصاً.. بل إن الإقامة المؤقتة تدعونا للتشبث بالتفاصيل.. الأشياء المملة، والمنهِكة، والرتيبة الرمادية، كلها تفاصيل تحنّ إليها بعد أن تزول.. لذا فإنك حين تبتعد، تترك في موطنك الأصلي جزءاً من الحنين لما كنت تكره في حال استقرارك.. وحين تعود تترك جزءاً من الحنين لما كرهت في بُعدِك.. وهكذا تُمضي الأيام في الحنين إلى هنا وهناك.. وما ذاك إلا جزء من قرارة نفسك، يهفو دائماً إلى ما ليس في اليد.. وبين هنا وهناك، يمكنك أن تمضي وقتك بالتذمر، أو بالاستمتاع بالتفاصيل، حتى البشعة منها، لأنك تدرك تماماً أنها قد لا تعود.
إن تفصيلاً صغيراً كفيلٌ بقلبِ كيانك أربعاً وعشرين ساعة، ما لك لا تأبه بالتفاصيل؟