كنت أقول لنفسي، ما الذي يريده العالم منك؟
هل حقاً يعني للناس أن يقرأوا أفكارك؟ هل تستحق
حروفك عناء القراءة؟ ثم رأيتني أكتب قبل أن أجد الإجابات.. وفي حين غفلة قرأت: من
يكتب ذاته في وقت يكتب غيره في كل الأوقات.
تمّعنت قليلاً فيما يتيسر لي قراءته كل
يوم.. ووجدتني أجمع من غير قصد أشيائي الصغيرة التي أدرك بيقين أنني أريدها،
وأعيدها على مسمعي كل يوم ولو بهمس عابر لعل يومها يأتي فتتحول حقيقة.
قد يبدو غبياً أن أتمنى يوماً فارغاً من
المسؤوليات والأشخاص والأشياء.. فيه ورق كثير، وأقلام أكثر. ألوان شمع، ودلو
طلاء.. بل يستحسن لو يكون الورق جداراً كبيراً يمكنني محوه ورسمه من جديد. ثم إنني
أتمنى أن أنزل يوماً إلى الشارع. أن أسأل كل طفل مارٍّ إلى أين يذهب.. وكل عجوز عن
الخطوط في جبهته، كيف ارتسمت.. وكل رجل مستعجل، وكل امرأة متأففة، وكل شرطي منهمك،
وكل عامل نظافة عن القصة التي بدأ بكتابتها يوم وُلِد.
أرغب لو أستمع إلى كل سائق سيارة أجرة، فأجوب
معه المدينة وأنا أنظر إلى الأبنية والجدران وعرائش الورد المنتدى المتدلية...
وبينما أسرق منه الكلام، أتطلع إلى الحياة بوجهها المكتظ بالقسمات.
أحيانا أتساءل كيف لا يتوزع الناس بعيداً عن هذا المكان.. وهل السكان المقيمون
هنا يرون كل التفاصيل التي أرى... وهل إذا ما غادروا يبيعون ذاكرتهم أو يستبدلونها
بأخرى نظيفة؟ هل يعني المكان شيئاً لساكن المدينة؟ أم إنها الفزاعة التي لطالما
كانت هاجس ابن القرية ولذلك يصب تركيزه على ألا تضيع لقمته في شوارعها؟ هل حقا لا
تُرسَم الأخلام إلا هنا حيث الضجيج والدخان والزحام؟ أم إن هذه كلها حين تزدحم على
الأرض تدفع أحلامنا نحو السماء فتغدو أقرب من التحقق؟
في
اليوم الفارغ الذي أتمنى، حيث لا زوايا ولا عقارب ساعة ولا غروب شمس يحدد موعد
العودة، أضيف إلى تقاسيمه كتباً كثيرة من غير رفوف... وكلمات أكثر من غير رقيب،
وقصص أناس تطفو في الجو من دون خوف أو تردد.. وحكايات جدّات أورثنها لأحفادهنّ..
وسيَر حيوات استحقت أن تُذكر.. وتفاصيل منسية يخبرنا إياها الغرباء فتملأ الفراغات
وترمم الشقوق.
ثم أعلم أن يوماً فارغاً لا يأتي إلا
بالفراغ، وأن الرغبة بالعمل تنبعث من ضيق الوقت، وأن الصبر لا يأتي إلا في الشدة،
وأن الرّخاء بلاء، وأن الإنجاز لا يكون له طعم إلا بعد التعب حد الإنهاك.
بيروت في 2 -11-2016