أكتبُ الآن لأن لديّ مئة مهمّة يجب أن أنهيها غير الكتابة. لكن ما لذة الكتابة إن لم نقتنصها من مشاغلنا اقتناصاً؟
ترنّ في أذني منذ الصباح الباكر جملةٌ قالها أستاذ لي ولزملائي في الصف التاسع الأساسي، أي منذ 11 سنة تقريباً - مجدداً، أفكر في الماضي لأنني يجب أن أبقى حاضرة الذهن هنا في الحاضر تماماً-.
"إن رسب أحدكم هذه السنة، سيؤخر تخرجه من الثانوية سنة كاملة. وبالتالي، فإنه سيخسر سنة كاملة هناك. سيسبقه الزمن. سيتخرج من الجامعة متأخراً سنة. سيلتحق بعمله بعد سنة. سيتزوج بعد سنة. سيخسر راتب عام كامل. ستتأخر علاوات عمله. كل ذلك بسبب هذه السنة. تفكّروا كم خسارة سيكلّفه ألا يضع كامل جهده في اختبار نهاية العام!"
علقت تلك الجملة في رأسي. صرتُ أشفق على المتأخرين. أفكر كيف سيكون شعورهم حين ينضمّون إلى صفٍّ طلابه أصغر منهم. كيف سيكون عامهم مع من هم أقلّ مرتبة في سلّم الوصول.
صرتُ أُعمِل نفسي جاهدةً كي لا أخسر الوقت. أتطلع دائماً إلى الفرص التي ستأتي في وقتها تماماً. لن تتأخر ولن تتقدم قيدَ أنملة.
حيت وصلتُ إلى الجامعة، لم يكن هنالك متسع من الوقت كي أرسم تفاصيل مستقبلي، لكن ذلك لم يكن مهماً بالنسبة إليّ. المهم أن أبدأ تماماً في الوقت اللازم. أن أنهي في الوقت اللازم.
كانت عوارض الالتزام بالوقت تستفحل. بالرغم من ذلك، كنتُ أشجع من أراه متأخراً على المُضيّ قدُماً. كنتُ أفكر في أن السير مهم للوصول، مهما كان الانطلاق متأخراً. لكنني لم أستطع أن أقبل ذلك على نفسي.
درستُ تخصّصين في ذات الوقت، وسمحت لنفسي بأن أتأخرسنةً في إنهاء أحدهما لأنّه "اختصاصٌ ثانٍ" ولا يجب عليّ الانزلاق إلى جلْد ذاتي.
ذاتَ مرة كنتُ أتصفح فيسبوك، وإذ بمنشور يهاجم أحد الأشخاص لكونه يستعلي على الآخرين لكثرة ما جمع من علوم. كان بمثابة صفعة لي حين ظننتُ أنني أحسنت صنعاً: "اعمل لتأكل بينما تتعلّم، اعمل لتُعيل عائلتك بينما تتعلّم، اعمل لتؤمن دواءك وأنت تتعلم، ثم افخر بنفسك".
توالت الأيام. رأيت الكثير من المتأخرين (وفقاً لرسوبهم سنةً أكاديمية) يتجاوزونني وغيري. يختارون طرق حياتهم بشغف، ويتعاملون مع قراراتهم برويّة فيحققون ما يصبون إليه، فيما يعلَق الكثير من المتقدمين الناجحين عند خيار أو اثنين من الخيارات، فتتأخر مشاويرهم الحياتية.
مع الوقت، تلاشى وهج الجملة.
عرفتُ أن ذلك الأستاذ كان يظن أنه يحفز الطلاب للنجاح، ولكنه زرع فيهم خوفاً أكبر، ونفخ كليشيهاتٍ مجتمعية في أذهانهم ستزيد الفرقة مع الوقت، وتوقع الخلافات.
بعد 8 سنوات ونيّف من تلك الجملة، صرتُ مُدرّسة.
عرفتُ أن الخسارة الأكبر، هي أن يتذكرك طلابك في سياقٍ سيء الذكر، بدل أن يذكروا كلمتك الطيبة.
تعلمت أن السنةَ الأكاديمية ليست معياراً للنجاح أو الوصول. من وجد شغفه في مهنة قد لا يرغب بالتعلم الأكاديمي، ومن لديه وظيفة يستطيع الدراسة على مهل إن أحبّ، ومن يرغب ببناء أسرة يستطيع أن يجدول تعلّمه على أساسه. من يرغب بأخذ سنة أو نصف ليحدد خياراته أو ليأخذ نفساً أو ليؤمن القسط ليكمل علمه ليس متأخراً.
والأكثر من ذلك كله، إن من يتأخر بسبب ظروف عائلية أو صحية أو كارثية كالحرب ليس متأخراً، بل هو متقدم جداً، لا ولن يسبقه حاملوا الشهادات، فالآلام والدروس الحياتية لا تدرّس في المعاهد، وأقساطها باهظة جداً، لا يرغب أحدٌ في دفعها.
صادفتُ طلاباً لي في مثل سنّي وآخرين أكبر. هذه التدوينة تحيةٌ لهم ولزملائي الذين اضطروا يوماً ما لأن يسيروا بمثل ما يتطلب المجتمع لا بمثل ما يقدرون عليه.
حنان فرحات | 2020