كان عمري ثماني عشرة سنة، وكنت أنظر إلى المدينة كنهاية وادعةٍ لقصةِ فلاح انتهى كاتباً مبهِراً.
كانت الضيعة الساحة التي يلعب بها ذلك الحلم، وكانت المنعطفات انكساراته اللطيفة، وحدود الطرقات الضيقة حوافّ القصة مُجبرةً. وكان في الضيعة ما كان من خلافات الإخوة والجيران التي تُمسحُ "بمسحة رسول" لما يبزغ فجر العيد. وكانت الحلويات التي تعجن بالفرح وتحشى بدعوة هناء تدخل إلى القلب بهجة عند الصغير والكبير..
ولكنني كنت أنظر إلى كتابات "الكبار" فأرى وأسمع عن ضيعة تحمل ذات الاسم، بملامح أخرى. وكنت أقرأ فأجد الكاتب قد أوفر الحديث عن السعادة التي كانت وولّت حيث أدبر زمانها.. وإذ ذاك كنت أشفق على قلمي، ماذا سيكتب، وأين ذاكرته من ذاكرة الأقدمين، وكيف يكشف غبار السنين؟
وإذ هرولت الأيام، أُكِلت من أطباقنا البركة وخفَت نور النهار حتى بدا كاتصال بسنا القمر، ولم نَعد نحصي العمر بالأيام بل بالسنين.. زحفت المدينة إلى الضيعة واستوطنت بين جنباتها، وأصبح للضيعة "سعادة ولّت"، وغدا الجميع أشتاتاً، وطال انتظار العيد الذي ما عاد يعجن حلوُه بماء "العين"، فصار يقتصر على مرّ القهوة تفادياً لآثار "السكري".
ولكن القلم الذي أصبح بعد سبع سنين قادراً على رثاء الضيعة أصابته نوبة سعال من الغبار الذي غزا واقعه.. لربما تنقشع الضبابة فيعود ليكتب أو تكون "البقية" لحياتي.
حنان فرحات | ٢٠١٨