توقعت أن لا أغفو في الليلة الأولى لي في السكن الجامعي.. لكنني من فرط التعب نمت باكرا جدا.. هذا الأمر الذي خططت لأن أكتبه قبل أسبوعين من حصوله بدا تافهاً في لحظاته الأخيرة..
ثم تذكرت المرة الأولى التي حاولت أن أنام فيها في غير منزلنا.. وتذكرت المرة الأولى التي ذهبت فيها إلى الجامعة.. كان كل شيء غريبا، أو بوصف أدقّ: ضائعاً. ثم حين حان وقت العودة إلى المنزل، بدا تمييز الحافلة التي يجب أن أستقلها أمرا مستحيلاً من بين عشرات الحافلات المصطفة في الموقف.. من هناك عرّجتُ إلى المرة الأولى التي طهوتُ فيها.. يومها لم يأكل والدي مما طهوت لأنه كان مضطرا للذهاب إلى طرابلس.. وفي المرة الأولى التي طهوت فيها ال"تنيتنة"، أكلت وأخي نصف ما في القِدر، ثم حين جاء البقية تبين أن ما بقي كان محروقاً ملتصقاً في قعر القِدر..
المرة الأولى التي قرأت فيها كتاباً عن وعي كان في أدب السجون من وجهة نظر ملحد، وفي المرة الأولى التي اشتريت فيها مجموعة كاملة لأحد الكُتّاب لم أعد أجد وقتاً لقراءتها.. أما المرة الأولى التي كتبتُ فيها فكانت إثر حلم، وأما الحلم الأول الذي لم أنسَ قط، فأعاد نفسه أكثر من مرّة ولم أفهم مغزاه بعد..
في المرة الأولى التي استقلّيت فيها النقل العمومي في العاصمة، دفعت ضعف ما يجب حتى وصلتُ لوُجهتي.. وفي المرة الأولى التي علّمتُ فيها، بدا الأمر أقرب لنُكتة.. كأنني في لحظة كبُرت.
المرة الأولى التي سمعت فيها اسم أخواتي، المرة الأولى التي اخترت فيها ثيابي بنفسي، المرة الأولى التي أكلت فيها من غير مساعدة.. المرة الأولى التي صرخت فيها أني لا أريد الذهاب الى المدرسة.. المرة الأولى التي انتصرت فيها لرأيي، والمرة الأولى التي حِدت فيها عن مبادئي.. كلها خيالات لا تبتعد كثيرا.. ثم تعود فجأة حين أكون في أوج انشغالي..
ثم دعك مني.. هل تنسى المرة الأولى التي تسارعت فيها دقات قلبك؟ والمرة الأولى التي فقدت فيها عزيزاً؟ والنفَس الأول الذي ابتلعته عند وصولك عتبة الحياة؟.. كل هذه أشياء لها طعم مختلف. صعب أن تنسى يوم تغيرت عاداتك الغذائية بعد لقاءك بتوأم روحك، أو لهجتك حين أمضيت وقتا أكثر مع صديق، أو ضحكتك حين لاقيت أحباءك.. حين كتبت ذاتك.. حين بكيت لوحدك.. حين فقدت شيئا نفيساً.. حين فهمت فكراً أو سمعت نقداً.. حين أفرحت طفلاً.. حين أزعجت شخصاً دون قصد..
المرة الأولى التي فيها تسافر، والمرة الأولى التي تكون فيها السائق، والمرة الأولى التي تدرك فيها أنك تحب هذا الشيء أو ذاك.. الرقم الأول الذي حُفظ في هاتفك.. المشروع الأول الذي حلمت بتحقيقه.. الصديق الأول الذي خسرت.. الخيبة الأولى التي واجهت.. التربيتة الأولى التي تلقيت.. المعلم الأول.. الحرف الأول.. كلها أشياء تذوب عند النقطة الأخيرة، لكنها لا تموت إن سعيت أنت لأن لا تموت.
حنان فرحات