Feb 29, 2024

رطب شفاهك

غمس رغيفك بالدم
رطب شفاهك، يا فمي

أغمض عيونك لا ترَ،
ضوءُ المحاجر قد عمي...

أنثر طحينك في الثرى،
أشبع نسور المَطعَم،

ما جاع شعبٌ، ارتقى
لو بات ليلاً يألَمِ...

شعب يسير إلى السما،
يكوي الجراح، ويلعنِ...

من يرتجيه لهدنة، 
أو فرصةٍ،
أو يفتديه بمرهمٍ،
أو يستعيض ببلسم..

رطب شفاهك، بالدم،
شعب الأباة لا ينحني،

هم عزة، 
في غزة.
من أنت يا، كي ينحني!

حنان فرحات
٢٩ شباط ٢٠٢٤ | 11.33 pm

Jan 5, 2024

عمي جميل، الجميل، إلى رحمة الله

 

في الخطوب تكثر أشكال الحزن ونكهاته، ولا يسلم أحد من مقدارٍ كتبه الله عليه.
وقد يكتب الله على أحدنا الدمع، فيهمي وافراً حتى ليظن المرء أن نهراً يتشكل، وقد يجفّ حتى ليظن المرء أن منابعهما تصحّرت، وفي كلتا الحالتين يتحوّل المحجران صخراً، ففي ذاته القسوة ومن شقّه الماء..
 
ولكم وددت لو أن لي دمعاً يكفي بقدْر الحزن، أو على الأقل، بقدْر الحبّ. ولعلي أستطيع استبدالها بالكلمات والذكريات، أرصفها في عقلي مذ استوطن المرض جسد الحنون.. لكن كيف لها أن تستقيم في اعوجاج الغياب؟ وأي ورق ذاك الذي يُنصف رجلاً كان ينظم بين النفس والآخر قصيدة؟ 
 
وليس نظم الشّعر فخراً لولا أنه يصيب المعاني في معاقلها، وليست مجالسة الأحباء زهواً لولا أنها تعمر اللسان بذكر الله تعالى، وتعمر القلب وتنعش الروح..
لم يكن عمّي أقوى الرجال، ولكنّه كان من أحنّهم،
ولم يكن أكثرهم مالاً، ولكنّه كان من أكرمهم،
ولم يكن أكثرهم علماً، ولكنّه كان من أفصحهم،
ولم يكن أعلمهم بالدين، ولكن حسبنا أنّه كان يعمل بما يعلم، ويطلب الحُجّة، ويقيم البرهان.
كانت له ضحكة جميلة، تنتشر عدواها متى بدت،
وكان يزين حديثَه بذكر النبي صلى الله عليه وسلم وما نُقل عنه من سنن وأحاديث،
وكان لنا نصيب من أبيات شِعره التي تؤنس الفؤاد، حتى أواخر أيامه، حيث أنهك المرض جسده ولكن لم يُنقِص حبّه ومودّته..
 
ومهما كان نصيبنا منه في الدنيا، فإن الطمع في لقاء الآخرة، حيث لا فراق ولا شوق ولا أحزان..
إلى ذلك الحين، نسأل الله أن يرزقه درجة الأولياء والصالحين، ويغفر ذنوبه وزلّاته، ويجمعه بمن يحب ونحب ممن سبقنا إلى جوار الله عز وجل، ويستقبلَه بعفوه وكرمه في جنة عدن حيث لا سقم ولا تعب ولا همّ ولا حزن..
لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى 
 
إنا لله وإنا إليه راجعون
 
عمي جميل (أبو أحمد) في ذمة الله
٥ ك٢ 2024

Dec 30, 2023

رسالة إلينا في العام الجديد

 

شهد الغالية،
 
وددت أن أكتب لك ختام العام رسالةً أهمس فيها إليك ببضع كلمات، أدون ذكرياتك ومشاعري تجاهك.. لكن أمهات كثيرات تكتب تحت صور أبنائها على وسائل التواصل كيف كانوا وكانت أحلامهم وضحكاتهم قبل أن يتحولوا إلى أشلاء.. أشتري لك الثياب والألعاب فيما يودع الآباء بسكويتاً وجوارب في أكفان أطفالهم، أطعمك وأسقيك وأهذب شعرك فيما تحشّ الأمهات ما تيسّر لإطعام أفواهٍ لها، وأخرى تُركت لا يُدرى لها راعٍ ولا كفيل... يصل الماء إلى عتبة منزلنا يا ماما في حين يُستهدف رجالٌ يسعون بالماء لأهليهم وللنازحين، ندون قوائم إنجازاتنا فيما تتلخص قوائم آخرين بالنجاة، ونطيل لوائح الأمنيات فيما يختصرونها بالنجاة.
 
لم يكن العالم على غير هذه الصورة أبداً، ولم تكن الصدفة سبباً في كل ما يحصل، بل أقدارٌ نسأل الله أن يهيئ لنا الصبر إذا وقعت، والحكمة إذا طالت، والرضا بما قُسِم لنا. ولكننا نسعى بما بين أيدينا، ونقيم وزناً للكلمة في نصرة الحق، ونبذل الجهد لإحياء الضمائر وإيصال الأمانات؛ أنهم لم يكونوا يوماً إلا أهل حق، لم يكونوا أفكاراً عابرة، بل بشراً من لحم ودم، لهم ذكريات وأماني وإنجازات، ولهم أحبة وأماكن مفضلة وتفاصيل تخصّهم وتفضيلات يحبّذونها، وإن اصطفاهم الله في هذه الأرض الطاهرة، فنسأل الله لهم العون والصبر، وأن يستخدمنا ولا يستبدلنا، وأن يكتب لنا نصرة إخواننا قولاً وعملاً.
 
لتكن هذه الرسالة وصيةً وتذكرة لي ولك، أن لا نحقرن من المعروف شيئاً، فرُبّ كلمةٍ تهزّ عروش الطغاة، ورُبّ دعاءٍ يسدد الرّمي، ورُبّ حشدٍ يصيب العدو في المقتل
🙏
حنان فرحات
بيروت
ك٢ ٢٠٢٤

Aug 19, 2023

تين ساحلي

منذ أسبوعين تذكرت التين، وظننت لوهلة أن الموسم فاتني دون أن أدري، وإذ بي ألمح حبات خضراء زاهية اللون عند أحد باعة الخضار في الحي مصطفة أمام دكانه. دكانه هذا الذي يشرف على شارع طويل ويفصله عن طريق سريع صفٌّ واحد من الأبنية، لا يحول دون وصول دخان خوادم السيارات والدراجات النارية إلى خضرواته.
 
قلتُ له باستغراب: "ظننت أن الموسم فات!"
فطمأنني أن الموسم يبدأ أوائل شهر أيلول، وأن هذا "تين ساحلي"، وكأنها تهمة لا حجة. شاركَته قريبتنا بعد سويعات رأيه، إذ رفضت رفضاً قاطعاً أن يشبه تيننا بأي شكل من الأشكال. 

تينُنا الرفيدي -نسبة إلى قرية الرفيد- الذي إن لم تقطفه بيديك مباشرة، أكَلتَه قطافَ يدٍ تحبها.. وكل ما ازداد احمرار حبة التين أخضرَ القشرةِ، أو حلاوة حبة التين الأسود الصغيرة، أو تسرب القطر من التينة 'العسالية'، تذكرت كفّيْ جدي تمام السادسة صباحاً تطرق باب منزلنا، ثم تفتح صندوق السيارة، يقاطع توالي الأحداث صوت أجش يطلب وعاء، ثم يلومني على صغر الوعاء الذي أحضرته، تغرف الكفّ من إناء كبير تيناً -وقثاء وعنباً-.. صندوق سيارة جدي يتسع لبستان، تماماً كما تتسع حقيبة الأمّ لمنزل.

أفكر فيما أضع كيس التين 'الساحلي' على حافة حوض المغسل، ماذا سأحمل بيدي لأحفادي بعد عشرين سنة أو أكثر؟ هل أضع في الصحن نصاً شاعرياً وعواطف مكتوبة؟ ثم أنظر إلى صغيرتي شهد وأسألها إن كانت ترغب بتذوق التين. تهز رأسها كما تفعل عند كل سؤال فأفسر الإجابة على خاطري،..
 أستعيد حواري مع البائع، "كيف أزيل الأوساخ عن التين إذ تضعه على حافة الطريق؟" فجاء جوابه غريباً بقدْر غرابة توفر التين مبكراً: "ليه الشجرة وين بتكون؟"
نقلت التين من الكيس إلى وعاء في حوض المغسل، وتذكرتُ غربة مريد البرغوثي التي بدأت حين اضطر إلى شراء زيت الزيتون في قنينة بدل الجرار التي اعتاد.. يبدو أن الغربة تسكن تفاصيل كثيرة أكثر بكثير من البعد أو الشوق. 

سكبت المياه في الوعاء وأغمضت عيني واستغفرت الله.. من يغسل التين يا الله! لم تقوَ أصابعي على فرك الحبيبات جيداً، أخرجتها من الوعاء ومسّدتها بمحارم ورقية أجففها كمن يستسمحها، ثم قطعت حبةً نصفين وناولت نصفاً لشهد، 

وضعَته في فمها ثم لَفَظَته. 

تين ساحلي، على رصيف شارع، في كيس، ثم يُغسل؟ كيف كانت ستبتلع ذلك كله!

حنان فرحات | بيروت | آب ٢٠٢٣

Jun 21, 2023

حُبٌّ بحُكم العادة

 

في يوم ما، قبل 2006:

دخلت إلى ملعب المدرسة المسقوف المعتم، ثم مشيت إلى آخره وعيناي تغرقان بالدمع. يميناً صنابير تسيل مياهها إلى حوض ضيق بموازاة الجدار، ويساراً نوافذ كبيرة تطل على الملعب الصيفي الكبير. أما في مواجهتي فنوافذ طويلة تطل على الأشجار التي تغطي سفح التلة حيث تتربع المدرسة.
غسلت وجهي بعد أن فتحت عدة صنابير على عجل لعل الماء ينزل من إحداها أخيراً، ثم تقدمت إلى النوافذ الطويلة. أحنيت رأسي إليها، واسترجعت اللحظات الماضية الثقيلة التي كادت ألا تنتهي.
*
لدينا فحص نظر اليوم في المدرسة. بين كل فترة وفترة؛ يأتي وفد طبي من الدولة الكريمة، يبشرنا بطُعم جديد نتاجه إبرة في الكتف أو قطرة مريرة نتجرعها دون حول منا أو قوة. أما فحص النظر هذا فبدعة جديدة! ما لهم ولعيوننا؟
اصطففتُ ورفاقي أمام الغرفة التي انقلبت من فصل دراسي إلى عيادة طبيب عيون بين ليلة وضحاها، أو قل بين حصة دراسية وأختها..
وبدأ الوافدون يخرجون تباعاً بالفوز المظفر، وكأن فحص النظر اختبار وقد أعدّوا عدّتهم جيداً قبل المعركة. لم يقل أحد ما الذي في الداخل، كأن لكلٍّ قدره، ولا غش في المسألة.
حان دوري فدخلت بتردد المقصّرين، وانتظرت توجيهات الحاضرين، ثم مثل المنام أنهيت ما عليّ وصرت في رواق المدرسة دون أن أدري كيف خرجت. ولأن النتيجة لم تكن مُرضية، أنستني تفاصيلَ العملية، لكن ما لم أنسَه أبداً سؤال ظل يرن في رأسي سنيناً عديدة: "هل لديكم ضعف نظر في العائلة؟"، فهززت رأسي إيجاباً، قلت "أبي"، فهز رأسه واثقاً : "إذن بالوراثة". وانقلبت الدنيا رأساً على عقب في عيني. خرجت هائمة على وجهي لا أدري أين أذهب أو ماذا أقول.

توجهت إلى الملعب "الشتوي" المسقوف، غسلت وجهي بعد أن فتحت عدة صنابير على عجل لعل الماء ينزل من إحداها أخيراً، ثم تقدمت إلى النوافذ الطويلة. أحنيت رأسي إليها، واسترجعت اللحظات الماضية الثقيلة التي كادت ألا تنتهي.
لم تكن مشكلة أبداً أن النظارات سترافقني بعد ذلك اليوم سنوناً عديدة، ولا أنني أشترك مع والدي بالأمر، لكن ما كبر في قلبي وعقلي في آن: "كيف سأخبره بالأمر دون أن أحزنه!"
**

2011

جالسةٌ في كرسيي عند الطاولة الأولى قبالة طاولة المعلمة. تشرح المعلمة وتستفيض، وأركز أحياناً ثم أشرد. أنزل نظاراتي الطبية حيناً، ثم أعيدها إلى وجهي. أتابع ما تقوله المعلمة باهتمام، وأجيب كلما اقتضت الحاجة على سؤالها.

لم أكن يوماً من المهتمين بالعلامة الكاملة، بقدر ما كنت أهتم ببذل قصارى جهدي. ولم يكن يعنيني أن أكون الأولى في الفصل، بالرغم من تصنيفي مع التلاميذ النجباء. ولا أخفيكم سراً، قد يكون عدم سعيي لذلك لعدم إيماني بقدرتي على المنافسة. لم أحاول فلم أفشل. ولكنني عند هذه المعلمة بالذات، أحببت التفوق وألفتُه. كان سهلاً ممتعاً، فسعيت إليه.

وفيما تشرح المعلمة، وأتابع، كما كل رفاقي في الصف، أنزلت نظاراتي الطبية، ثم أعدتها عدة مرات. لا أذكر لمَ، قد يكون لاحتقان في أنفي، أو ضغط في أذني، أو انزعاج من احتكاكه بحجابي، أو ارتباك دون أي سبب..لكنني أذكر تماماً أنها أربكتني كملاكم لا يدري من أين تأتيه اللكمة التالية.. وفيما كانت تدور معركتي الخاصة، كان يسير شرح الدرس بسلاسة لا يعكر صفوه ضجيج صراعي..

ولأنني مهما كنت منشغلة، أُبقي على سمعي مع المعلمة لربما باغتتني بسؤال ما، وإذ بها تضرب مثلاً للطلاب عن صاحب معمل يطلب موظفين للعمل لديه، ثم تتبعه بالسؤال التالي:

"هل يا ترى سيوظف صاحب المعمل أشخاصاً يرتدون نظارات طبية، بحيث يضيعون نصف الوقت في تعديل وضعيتها؟ أو يختار من لا يرتدي نظارات حتى يزيد الانتاجية؟؟"

كانت تلك المرة الأولى التي أنزل يدي فيها إجابة على السؤال، بدلاً من رفعها للإجابة عليه.

 

**

 2014

 
غرف كثيرة، رائحة تعقيم، بلاط براق، لون أبيض ناصع كيفما اتجهت، وصراخ آنسةٍ يشق صمت الحاضرين، مصدره غرفة قبالتي. اُدخِلتُ غرفة أو اثنتين، تصوير مقطعي وغيره من الفحوصات اللازمة قبل الإجراء الأخير، ولحظات وداع بطيئة لنظاراتي وعدساتي اللاصقة في آن، يعكر صفوها توقعات الألم لعدة أيام مقبلة.
حين حان دوري ودخلت، لم يكن هنالك ما يثير الهلع. بل بالعكس.. سرير أسود عادي جداً(وربما الجيد في الأمر أنه لم يكن أبيض اللون)، ماكينات بسيطة لا يبدو عليها أثر التعقيد.. لا رائحة لدماء أو مصل في الأجواء.. كل ما في الأمر انتظارُ دقائق حسب ما تقول الممرضة. طلَبَت مني أن أتمدد على السرير ثم حيّتني على جرأتي. ثبَّتَتْ جفناي بملقط وأنزلت بضع قطرات مخدر فيهما ريثما دخل الطبيب. وجّه إلى بؤبؤاي تِباعاً شعاعاً أحمر ثم شممت رائحة احتراق بسيطة. لحظات، ثم خرجت من الغرفة مرفوعة الرأس، تعلو أنفي نظارة أيضاً، لكنها هذه المرة شمسية...
**

ما الأجمل من استيقاظة هادئة، لا يعكر صفوها شيء، ولا حتى اضطرارك لوضع النظارة حتى تستطيع تبيان عقارب الساعة قبالتك بوضوح؟

تدخل أشعة الشمس دونما استئذان عبر ستائر الغرفة، تتعارك مع أغصان شجرة المشمش الطويلة بلا غلّة، ثم تنساب على أعيننا، فإن لم توقظنا بنورها، فعلَت بحرارتها المرتفعة. 

**

أسير في الجامعة مع صديقة تشاركتُ وإياها سنوات دراسة عديدة، قبل أن نتشارك تجربة "الفراق" عن النظارات الطبية. ترتدي كلتانا نظارات شمسية لتمنع الضوء القوي ونسمات الهواء من الوصول إلى أعيننا في إجراء قسري ريثما طابت من العملية، فيما تصل إلى آذاننا تعليقات بعض الطلبة إذ يستغربون همساً وجود نظارة شمسية على وجه إحدانا التي لا يعرفُ ولا يخصُّه أمرُها دوناً عن غيره.  

**

2017

تتوالى قطرات الترطيب التي سمعنا كثيراً عن ضرورة الالتزام بها عدة أشهر، وتتوالى الأيام. تتكرر الصباحات الجميلة، وغيرها الممتعضة.. كما ساعات الدراسة الكثيرة.. ويُتعب العينينَ الشوق...

في زيارة تالية بعد سنتين أو ثلاث، يزفّ الطبيب الخبر. عيناك تعبتان. "جيد أن التعب ليس في قلبي"، أحدث نفسي. يكتب لي وصفة طبية "للاحتياط"، وأضحك في سرّي، هذه فرصتي للانضمام إلى لابسي النظارات الطبية بطريقة ألطف، بعد أن أصبحت النظارات "موضة" منذ سنوات.. وتحديداً بمجرد أن خلعتها.

**

2022

"أظن أن عيناي تتعبان أكثر من ذي قبل ليلاً"، أحدّث زوجي فيما أقلّب بعض الأوراق.. أو ربّما تسبب حملي الأول بضعف في نظري.. "قد أنبأني الطبيب ذات مرة أن الحمل يسبب ضعف النظر.."

أحاول أن أريحهما بعد استعمال الشاشات الإلكترونية. أمضي بعض الوقت وأنا أتأمل البنايات من نافذة المنزل. أتساءل في سري إن كان هذا يعوض عن "النظر إلى المساحات الخضراء البعيدة".. إن الأمر أشبه بالتداوي بالأعشاب بالمقارنة مع منتجات علم الصيدلة. "هذا المتوفر بكل حال".. أزفر ثم أعود إلى عملي...

**

2023

"ما رأيكَ أن تفحصَ عينيك؟ سآخذ موعداً لي ولك"، قلت لزوجي فيما أحدّث قائمة الواجبات الأسبوعية.. وقبل أن يهزّ رأسه بالإيجاب، كان الموعد قد ضُرب.

هذه المرة حفظت درسي جيداً. لا مفاجآت. لن يتهم أحد عيني بالتقصير، ولن يمس أحد الأسباب الجينيّة.. لن نتطرأ لهذا الموضوع أصلاً... أجريت بعض الاتصالات مع أهلي أتأكد من تفاصيل العملية التي سبق وأجريتها، وأخذت نظاراتي التي بالكاد أستخدمها لربما طلب رؤيتها الطبيب الجديد.

وبعد انتظار طال -كما يطول كل انتظار-، والإجراءات الروتينية التي يتطلبها الأمر، وصلنا إلى كرسي العيادة المنشود. جلس زوجي على كرسي المحاكمة، فيما أنتظر جانباً دوري بتوتر الطالبة النجيبة، التي تدعي أن المركز الأول لا يهمها ثم ترمقه بعين المُحب، ولم يطل الأمر حتى صدر الحكم بالبراءة.

"وضعُكَ مستقر"، قال الطبيب لزوجي ثم أشار إليّ للتقدم.

جلستُ على الكرسي جلسة المعتاد على الامتحان، العارف لكل الأسئلة. قدمتُ رأسي ووضعت ذقني حيث يجب. نظرت بعيني اليمنى حيث أشار الطبيب بإصبعه، وركزت جيداً نظري بالعين الأخرى حيث طلب. توقف الزمن للحظات لا يرمش فيها جفناي انصياعاً للأوامر، ضوء يُشعّ تماماً في منتصف المدى.. ثم انتهى.. أسندت ظهري قليلاً إلى الوراء.

"ارمشي قليلاً،.. تمام، أعيدي ذقنك إلى حيث كان، انظري إلى إصبعي هنا.. لحظات وننتهي، لا ترمشي بعينك.. همم.. أنهينا"

"يبدو أن علينا أن نعيد الفحص مع توسعة للبؤبؤ للتأكد من النتيجة"، قال الطبيب،

"لقد أجريت عملية لعيني منذ عدة سنوات.."

توالت الأسئلة والإجابات، لم تكن كتلك التي درست. لم يتّهم أحد جيناتي هذه المرة، بل انصب اللوم على مسار العملية الأولى... ولكن الشعور بالخيبة كان ذاته.

غادرنا العيادة، بصحبة وريقة تستقدم صديقاً قديماً جديداً: نظاراتي الطبية. نظارات تعود بدون لوم أو عتاب، تماماً كأشياء كثيرة تغيب ثم تعود. قد لا نفرح لعودتها، ولكننا لا نأسف لوجودها.. بل ربما نفهمها أكثر، وقد يكون لها نصيب من الحب يوماً ما، حبٌّ نكتسبه بحكم العادة، لا بحكم العقل والقلب.

حنان فرحات | بيروت، رأس النبع

22-6-2023 12:24 بعد منتصف الليل

 

Nov 25, 2022

رسالة رقم ١

شهد الغالية،

هذه الرسالة غير سابقاتها، أكتبها في وقتها تماماً، فلا يتغير الشعور ولا ينطفئ المعنى.
بك صار تعداد الأيام فنّاً، ومعك صار الوقت أقيم، والفرح أسمى، والحبّ أجلّ!

بك، يا ماما، أدركتُ كم تحبني أمّي.
هذا لا يعني أنني لم أدرِ من قبل، ولكن بعض الدروس أنفعُ بالتجربة. لقد قرأت صباحاً أنّ كل أنثى أمّ، وإن لم تلد. ينتابها شعور العطاء على هيئة حياة بكل تفاصيلها، فتُطعم وتهتم وتُداري وتطبطب وتسمع. وأنا إذ أبصرك حقيقةً بعد إذ كنتِ فكرة خلّابةً، ثم صرتِ حركةً أشعر بها في أحشائي، أدركت سرّ رغبتي العارمة بالطهي والخَبز، وسعادتي الجمّة بفنجان قهوة أعدّه. 

 أدركت أن الاستيقاظ معك أبهى من النوم المطمئن، والنوم على صوت أنفاسك أهنأ الليالي، ومحاكاتك أمتع أنواع السمر.. وبذا أدرك كم بذل والداي من الحبّ خلال مسيرة تربيتهما لنا، ولو أنه يخيل إليّ أنها ابتدت أمس، إلا أنها تكاد تلامس الثلاثين سنة.. هل ستمرّ سنوننا سوياً بالسرعة ذاتها؟ 

ماما،
يا قطعةً من فؤادي،
أتدرب يومياً على فكرة إفلاتك.. فأنا إن أمسكت يديك للأبد، لن تكون لك فرصةٌ للسير في رحلتك الخاصة! أحاول أن أتشاركك مع المحبّين، أن أتهيأ لأحلامك الكبيرة التي قد لا تتناسب مع تطلعاتي، وأن لا يكون لديك متسع من الوقت للدردشة صباحية قبل أن تتوجهي إلى عملك! ولكن هل عليّ الاستعداد فعلاً منذ الآن؟ 

أتفكر كثيراً فيما إذا كنت ستكبرين ابنة مدينة أم ابنة قرية.. أي انتماء ستعلنينه بفخر؟ أو هل سيتعلق قلبك بمكان أم بترحال؟ أنا التي كنت أرغب في بداية جميلة لك كتلك التي عشت-ولعل ذلك من أنانية الأم-، سأنقلها لك حكايةً طويلة قد تملّين من تفاصيلها أو تكرارها.. سأكتبها لك، وقد لا تحبين القراءة... ولكنك بذلك قد تكسبين أكثر من حياة! 
-لن أكتب عن قرية والدك، لعل الغيرة تدبّ في قلمه فيكتب لك-

كلامٌ كثيرٌ يا ماما، كلام كثير. لنا عودة في رسالة أخرى..

حنان¦ شحيم ٢٠٢٢

رسالة رقم ٢

شهد الغالية، 🍯

كل يوم يولد أطفال في هذا العالم. كل يوم يغادر أحدهم رحماً حنوناً إلى عالم يُظنّ أن يكون أكثر إشراقاً. كل يوم يصرخ أحدهم صرخته الأولى فيما يبتسم والداه، مذعورٌ لفراقٍ يظنه آخر الحياة، فيما يكون مجرد بداية.

تسير الأيام ببطء فيما ينظران إلى عينيه، حتى إذا ما التفتا عنه قليلاً هرولت الساعة كأنها تغافلهما. بعد أشهر قليلة وأخرى كثيرة، ينظران إلى الصورة الأولى بشغف ثم يقول أحدهما للآخر: كأنه الأمس!

يراقبان حركاته كأنهما في إعدادٍ مستمر لاختبار مهم. يتدارسانه، وزنه وطوله وملامحه، سَكَناته وردّات فعله، نومته وجلسته ووقفته وحروفه ونظراته.. يقارنان نموّه بمعدلاتٍ عالمية، هل يواكبها، أم يتقدم عنها، أم يتأخر؟

يفهمان معجزة الكون، كيف كانا وإلامَ صارا.. ويتفكران في غَدِه. لكن فيما هما في غمرة الأحداث وتسارعها، يظنان وليدهما الأفضل والأذكى والأعزّ إلى أي قلب على وجه الأرض... أنّ أحداً لم يكن بذكائه فيما يخطو خطوته الأولى، وينظر نظرته الأولى.. أنه الوحيد الفريد، الذي لا أفضل منه ولا أغلى.. ناسينَ - أو متناسين- أن المعدلات العالمية هي نتيجة لولادات كثيرة كانت كلها لأطفال يشتركون في أنماط وطرائق النمو.. 

أتعبتك يا ماما بحديثٍ حدثتُ به نفسي؛ الخلاصة يا عزيزة، كأنك قدِمتِ الأمس. وكأنك الأذكى على الإطلاق؟

أمك
بيروت في ٢٥ ت٢ ٢٠٢٢

*جعل الله لكل وليد حضناً دافئاً وسكناً آمناً، ولا حرمَ زوجين الذرية الصالحة🙏

Mar 2, 2022

الزائر الثقيل

ستستيقظ يوماً فتجد مسخاً في المرآة. صورة لك، لم تعهدها من قبل. ظلّ يتثاقل على النهوض من السرير بعد إذ اعتدت على النشاط. يرى في كل شيء رماداً بدل طيف الألوان الذي تألفه، ويكاد يقسم ألا شيء في العالم يُدعى البهجة.
يتكاسل المسخ عن القيام بأي شيء ذي نفع. لا تهمه القيم العليا التي كنت تنظر إليها، ولا يلقي بالاً لأسبابك المهروسة تحت مطحنة العادة. لا يرى جدوى من بذل الجهد، بل مضيعةً مضاعفةً للوقت في كل أمر كنت تسعى إليه.
يضع عينه في عين نفسك إذ ترقبه في المرآة. يحدثك بكل وقاحة أنه سيستلم مقاليد الحكم، وسيبدل أيامك إلى ملعب يمارس فيه حيَله الماكرة. سيُقصيك عن كل ما تحب، كنت تقرأ كتاباً؟ حذار أن تقترب منه. كنت تحب طبقاً ما؟ لن تستمتع به بعد اليوم. كانت تهفو نفسك للنجاح؟ فاليأتِ دون جهد أو فليذهب إلى الجحيم. 
يقتات المسخ على حزنك وكربك، وعلى تسليمك وانصياعك، ويزداد كبراً كلما طاوعته وانجرفت إلى ألاعيبه. لكنه كلما وضع عينه في عينك، سرت في بؤبؤيه رجفة وفي قلبه وهن. يسأل نفسه؛ هل حان وقت العودة؟ ومتى أطلت النظر إليه، ضعفت شوكته واهتز عرشه. هو جزء منك، يعيش على عافيتك، ويندحر بصبرك ومجابهتك. يزورك بين الفينة والأخرى، كزكامٍ ثقيل، يصدع رأسك ويشوش عقلك ويتعب أنفاسك، ثم بعد أن يزول البأس، تعود كما كنت، بطلاً في عين نفسك، ورعباً في قلب مسخك.
أهمّ ما في الأمر أن تعي أنه زائر مؤقت، وأنك أنت - أصلُ الحكاية- الصورة الأولى والأساس.

#حنان_فرحات ¦ بيروت ٢٠٢٢

Dec 20, 2021

اللوحة الأجمل


قررتُ ببراءة الأطفال أنني أريد أن أسير يوماً تحت الشتاء. أنا التي اعتادت صقيع البقاع وشتاءه، لم أظن أن شتاء مدينة ما سيكون شلالاً بالمقارنة مع شتاء القرية الأقرب إلى دموع بَكَّاء. وعندما اضطررت أول مرة للوقوف تحت شتاء بيروت بانتظار سيارة الأجرة بعد أن رفضتُ تكراراً عرض أمي صباحاً أن آخد وشاحاً إضافياً أو مظلة، تبللت حتى لم أعد صالحة لأن تُقلني أي سيارة! ضحكت في قرارة نفسي من كثرة الحزن. ما أجمل المطر من خلف الزجاج!

**

تكنس أمي يومياً أوراق الخريف، يلومها خالي على تخريب اللوحة الجمالية الطبيعية.

في أميركا، أتأمل التلال الشاسعة تغمرها أوراق الأشجار الملونة في لوحة خلابة لا يضاهيها رسم أي فنان. 

على شرفة منزلنا السابق، تهبط أوراق العرائش والأشجار كأنها أكياس تُملأُ وتُفرَغُ قصداً. أفكر في تركها لوحة خلابة، ثم أتذكر البلاط الذي سيفسد، والحشرات التي ستحب قضاء بعض الوقت تحت لحافها الوثير، فأمسك المكنسة آسفة وأحدث نفسي: ما أجملَها من بعيد!

**

بعض طلاب المدارس والجامعات، وآسف لقول ذلك، يعتمدون الغش وسيلة أولى للنجاح، وقد يبتغونها للتميز أيضاً. ينسون تماماً أنّ النجاح بالغش يمنع عنهم المنفعة المقصودة بعملية التعلّم، وهو حل مؤقت قد يشكل عقبات أمامهم في سوق العمل. أما في فئة طلاب الدراسات العليا، فيقل هذا الاحتمال، وأعزو ذلك لكون خيار استكمال الدراسة ما بعد الجامعية يكون نابعاً عن قرار شخصي لا عن قرار يجتمع فيه الضغط النفسي ورغبة الأهل وتوقعات المجتمع. أحياناً يلزم الاقتراب من الذات للتحقق من الرغبة!

**

قد نكون خلف نافذة نشاهد المطر فنتمنى لو أننا تحته، ولو أننا تحته لتمنينا نافدة تقينا إياه.

وقد تكون اللوحة أجمل من بعيد، مليئة بالعيوب لو اقتربنا أكثر من اللزوم.

وقد نبتعد عن ذاتنا كما لو أنها اللوحة الأجمل من بعيد، فيما نحتاج أن نقترب لنرمم الكسور ونغلق الثقوب. 

**

قد يكون القريب صحيحاً، وقد يكون البعيد أسلَم؛ العبرة بموقعك من الأمور.

 

حنان فرحات | بيروت

20-12-2021

Dec 8, 2021

كل ما لم يبقَ


خاصمت والديّ بيني وبين نفسي عدة مرات.

مرة حين باعوا السيارة الزرقاء الصغيرة. بالرغم من أن الدهر كان قد أكل عليها، وأنا وأخي أشبعناها تمزيقاً وتوسيخاً كحال كل الأطفال، إلا أنني خفت على الذكريات. كيف سيوضع الكرسي الأزرق ذو اللون ذاته في سيارة أخرى. كيف سيكون المشوار بنفس النكهة؟ وهل ستبقى أعمدة الإنارة بذات العدد لو تغيرت النافذة التي أنظر منها؟

في المرة الثانية، كنت قد نسيت السيارة ونسيت لمَ كنتُ مصرّة على استبقائها. لم تكن جميلة أصلاً! استبدلا المدفأة الأسطوانية التي تتمركز وسط المطبخ بأخرى غريبة الشكل. بت الليلة وأنا أفكر كيف لسندويشة اللبنة أن تتسخن بالجودة نفسها، هل ستكون بذات النكهة؟ هل يعقل أن اللذة تكمن في شيء غير حرق الأصابع فيما أمسكها بكلتا يدي وألصقها على حديد المدفأة الجانبي طولياً، ثم يرجوني أخي أن أسخن سندويشته فأوافق بشرط أن يطوي لي عدة مناديل قبل أن يصل باص المدرسة؟ 

لكن الحزن لمغادرة المدفأة ما لبث أن اضمحل حين صار فرن المدفأة الجديدة سيد الموقف. تدخل السندويشة معززة مكرمة، تتمدد هناك فيما تلسعها الحرارة من كل الجهات، لا أصابع تحرق، ولا انتظار يذكر، وكلٌّ يطوي مناديله! رغم تبدل هيئة المدفأة من أسطوانة طولية إلى شبه مكعب ذا فرن، بقي بإمكاننا الالتصاق بها والتمدد حولها في أيام البرد. ولا أعزّ من صوت والدتي توبخنا على الجوارب المحروقة، إلا صوت والدي الذي يوبخنا لحشر أقدامنا تحت المدفأة لأسباب صحية.

لم يطل الأمر كثيراً. ربما عشر سنوات؟ حسناً، طال الأمر. لكن دوام الحال من المحال. كبر أفراد المنزل، وازداد الاكتظاظ حول المدفأة. فاقترح أحد ما مدفأة جديدة، تجلس في الزاوية كضيف، وتنفث الهواء بمساعدة مروحة كهربائية، وتعطي المفعول ذاته. بل إنها أفضل! رفضت. لا أدري إن أعلنت رأيي أو تعاملت مع الأمر كما لو أنه فرض واجب، واكتفيت بالاستنكار في الخفاء، لكن الإجابات جاءت قبل الأسئلة: "له فرن". قلت لا بأس، فدلال سندويشة اللبنة محفوظ، والهدف من التغيير التوسعة، وكلاهما للخير العام. لكن الحق يقال، كان الفرن أبعد عن النار، فالمدفأة المكعبة طولياً تتربع ك"الشيمينه"، كما لو أنها لا تألف إلا الجبن الفرنسي، أو التوست الأميركي. المهم أنها لا تفهم معنى اللبنة، ولا تتسع لصواني الكعك العديدة، ولا لقالبَي كاتو سوياً.   

ما علينا، انتهى شتاء وجاء غيره، وانتقلنا لمّا ازددنا أصهرة وأحجاماً من المطبخ إلى غرفة الجلوس، ولم يعد حتى الفرن الصغير الذي لا يملأ العين في متناول اليد. وفي زاوية الغرفة التي لطالما عهدناها للضيوف، تمركزت مدفأة لا تشبه الماضي ولا الذكريات. كما لو أن عدم وجود فرن فيها لا يكفي، بل إن حديدها حتى لا يصلح إلا للمنظر. بكبسة زر تنفث الهواء الدافئ في الغرفة فأكاد أختنق. وفي كل مرة أسأل نفسي، هل يخرجني ارتفاع الحرارة أو اكتظاظ الصور قي مخيلتي...

---

 بعد سنتين ونصف، ها أنا في منزلي الجديد، أنعي عدم الحاجة إلى مدفأة. "تكفي مدفأة كهربائية صغيرة وسترة سميكة. أو يمكن للAC  أن يعدل حرارة الغرفة فتنسين أن الفصل شتاء". لا يا أعزاء. لا يمكن أن أنسى. صباح مساء، سألفّ سندويشة اللبنة القروية وسط المدينة، وسأسطحها على المقلاة لتتسخن. قد أتناساها قليلاً حتى تكاد تحترق، أو أثبتها بأصابعي كي تكتسب نكهة المدفأة القديمة. والمرة تلو المرة، سأتنهد مبتلعة غصة المدفأة الأولى، والسيارة الأولى، وكل ما لم يبقَ كما كان.


حنان فرحات 

بيروت ديسمبر٢٠٢١

Nov 15, 2021

في مديح الجمال

يمكن للجمال أن يكون أخضر العينين، أشقر الغرّة، واسع الجبين، ذا غمّازتين يهتف لهما القلب. أو ناعم الشعر كالفرس، أبيض السحنة كالثلج، بنّي القزحيّة كجذع شجرة معمّرة. يمكنه أن يكون ممتلئاً كغيمة ماطرة، أو ضئيلاً كنسمة في ربيع، أسمرَ كالقهوة، أو أحمرَ كالشّاي. قد يتكلم العربية ببراعة النحويين، أو أجنبياً كمدرّس في هارفرد، أو شرق آسيويٍ لا تفهم معانيه لكن تلفتك منحدرات منطوقه.

وبالرغم من أثوابه العديدة، لطالما استفزّني حبس الجمال في ملامح أو تأطيره في تعريفات مجرّدة، فهو توحّد ألوان مرة، واختلاطها مرات أخرى، هو فصول عديدة، ومناخات أكثر، ونساء ورجالات، صغار وعجائز، بيوت وزوايا وصور وذكريات ولحظات انبثاق وانصهار وانسياقٍ.. 

أحزن حين يُصار إلى مديح الأشخاص بحُسنِ ملامحهم، أو حتى الإثناء على أيّ من خصالهم ما لم يكن لهم جهد مبذول في سبيل تحقيقها. فالمدح والحمد والشكر هنا للخالق، لا المخلوق الذي لا فضل له ولا منّة في نحت آيات الجمال.

ولو أمعنّا النظر في المسألة لوجدنا أن حبّنا لبعض الأشخاص لم يكن لينقص أو يزيد لو أن أشكالهم تبدّلت، أو ملامحهم شاخت. بل بالعكس تماماً، كنّا سنحبهم أكثر كلّما تعتّقت وجناتهم وغارت عيونهم وتجعدت أكفّهم (قد يفسّر هذا الأمر حبّنا للجدّات حبّاً لا متناهياً).

أما في الحالات المعاكسة، حيث نهتم لأمر شخص ما بسبب انجذاب فيزيولوجي بحت، فإن ذلك الإعجاب يضمحل عند أوّل تضارب مصالحٍ أو سوء معاملة، وتصبح "فلقة القمر" بدراً آفلاً، لا يهم حضوره مرّة في الشهر طالما أنه يغيب كل النهار ومعظم الليال. أمّا إن رافقه حسن المعشر وجميل المنطق فتلك ركيزةٌ متينة لعمارة العمر.

بذرة الجمال تستقرّ في إناء قرب القلب تماماً، تزرعها صلة قربى أو موقف غير عابرٍ أو إعجاب بملامح في مرّات قليلة، لكنّها لا تنبت إلا بالعِشرة والصّبر وبذل الحب. قد تورق بابتسامة، لكن ابتسامة لا تكفي لمواجهة الشتاء. بل إن كأس شاي دافئ في ليلة ماطرة قد يجعل زهرها يتفتح متعارضاً مع قوانين الطبيعة. 

لذا فإنك ستكون أجمل في نظري –وقد لا يهمك ذلك أصلاً-، حين تمدح محبوبك بالخصال التي يجهد في تنميتها والحفاظ عليها؛ في بشاشته، تفانيه، صدقه، سعيه الدؤوب لتحقيق أهدافه، دعمه لك، إيمانه بنفسه وبك، وغير ذلك مما يستكشف المحب ويألف.

ليكن مديح الجمال مديحاً للجمال المكتسب بالطرق المشروعة، لأنه يزيده وينميه، لا للملامح التي تختلف باختلاف الناظر إليها، وتتغير بفعل الزمن وحوادثه، وتنهار عند أول منعطف، وتزداد كِبراً بالغزل فيكون له تبراً.

حنان فرحات ¦ ت١، ٢٠٢١
بيروت

مطبخ الحب

أحبّ الصبحيات. أحاديث الجارات وحوارات الكبار. أستمع بشغف كمن يلتقط أسرار حرب إلى حديث حول صينية المتة، يشوبه في بعض المرات صوت فرم باقة البقدونس، ولو أنّ الحديث لا يتجاوز في غالب الأحيان روتين الأعمال المنزلية اليومية والموسمية، و"طبخة اليوم". ولكثرة حبّي لهذه الجلسات، اعتدت أن أدرس فيها، وأن أستيقظ باكراً لأجلها حتى صرت لا أعرف مستقرّاً لي في أي غرفة لو زارنا أحد، إلا الغرفة التي يحلّ فيها الزائر. أما عن الزائرين فهم عدة أنواع؛ الأقرباء والأصدقاء المقربون، الزملاء في الدراسة أو العمل، والزائر الخاص بفردٍ من أفراد العائلة. ويكون غالبية الزوار في القرية من النوع الأول، كما قد ينتقل أي شخص من الفئتين الأخريين إلى الأولى بسهولة، وبالتالي لا ضير من استقبالهم في المطبخ. في مطبخ المنزل كنبات تسهّل استقبال أمي لجاراتها أو قريباتها بينما تطبخ أو تغسل الأواني بعد أن تعود من العمل أو في عطلة نهاية الأسبوع، وتلفاز تشغله صباحاً لسماع القرآن الكريم، وخلال النهار لسماع نشرة الأخبار. وكذا في مطابخ ربات البيوت في القرية؛ شيئاً فشيئاً، تصبح أوسع من غرف الجلوس، توقد فيها النار شتاء، وتفرش فيها الموائد صيفاً. يتفنن النجّارون في جعل المطبخ "عملياً"، ويصبح له بعد عدة سنوات شرفة أو مخرج إلى "سطيحة"، تحيط بها شتلات الورد وتظللها شجرة ما أو تُنصب لها خيمة قش أو قرميد في أحسن الأحوال. تلتم العائلة فيه كما لو أنّه الغرفة الوحيدة في المنزل، وتتكاثر على "مجلاه" الأواني والأطباق منذ الصباح الباكر، ثم تقلّ وتكثر حتى حلول الليل. وعندما تكبر العائلة، يزداد ذهاب وإياب الأواني؛ تمتلئ وتفرغ، تتسخ وتنظف. بعد عدة سنوات، يكبر الأطفال. تصبح لهم مواعيدهم وعزوماتهم الخاصة، ومن ثمّ مناساباتهم وأصدقاؤهم وعائلاتهم، فتتغير حركة الأطباق والحلل حسب أيام الأسبوع. تكبر "الطبخة" لعل زائراً أو صديقاً يحضر في وقت الغداء، وتؤكل أحياناً بشهية على الغداء والعشاء ثم فطور اليوم التالي لو كانت بلذة الملوخية أو "الكشك بالبطاطا". يقلّ المتحلّقون حول مائدة المطبخ أحياناً، ويكثرون أحياناً أخرى. يأكلون من موائد أخرى أطباقاً لذيذة أحياناً، وعادية أحياناً أخرى، لكنّ الأكيد ألّا طبق يمتلئ بنكهة الحب ذاتها، ولا طعام يؤكل بالدفء ذاته. يفتقدون تفاصيل كانحناءة الملعقة، ونقوش الطبق، وألوان الأواني، ورفاهية معرفتهم لمكان كل شيء في أي خزانة تقع أيديهم عليها كما لو أن كل شيء ملك لهم. يفتقدون معرفتهم الدقيقة بذوق كل شخص حول المائدة، والنكات التي تغيظه، وأقلّ وأكثر ما يعمر قلبه بالسعادة. في معجم القرية، من لا تدخل مطبخه، لست من أعزّ الناس عليه. 

مطابخ المدينة للطهي، ومطابخ القرية للطهي والحب. سأكتشف ذلك لاحقاً. 

من روايتي المقبلة

Sep 9, 2021

إناء جديد

 

"إنّها تصفرّ..!"، قلتُ لجدتي في عجالةٍ إذ سمعت صوتها بينما أكلّم أمّي عبر الهاتف. "قولي لها إن الشتلة تصفرّ".

كان الأمر مضحكاً بالنسبة لي، أو بالأحرى "إشارة" أنّ عليّ الكفّ عن الحلم قليلاً بفلاحة أرض الشقة التي نسكن في بيروت، وزراعتها بيدراً من الجرجير سريع النموّ، أو الريحان العبق الرائحة، أو الفجل الذي يبحث الراحة في نفس من يحصده. بدأ الأمر، أو انتهى فعلياً، حين أخبرتني جدتي بحماسٍ أنّها جهّزت لي شيئاً مميزاً. قالت لي إنها تعرف أن السائد إهداء شتلات الورد، ولكنّها تطمح إلى شيء أكثر فائدة بالنظر إلى "ظروفي المعيشية". قالت والابتسامة تعلو وجهها البديع، "أعددتها وسقيتها على مدار عدة أيام، آنيةٌ فيها من تراب "حاكورتي" وبصيلاتٌ خضراء تقصفين منها كلّما أعددت صحن سلطة! ما رأيك؟ أليست أفضل من الورد؟!".. وإذ تكبر ابتسامتها، كبرت ابتسامتي أيضاً، فهي حين وصفت الإناء واهتمامها به قلتُ لنفسي مسرورة أنْ ها هي شتلة الريحان قد تأمّنت من دون عناء، ثم انقلبت ابتسامتي ضحكةً على توقعاتي عند خيبة الأمل. لم أخبر جدتي وقتها –لكنني فعلتُ لاحقاً- أنّني عادةً أستبعد البصل الأخضر من كل وصفات الطعام، ولو أن حديقتي المأمولة وجدت طريقها إلى الحياة، فإنها بالتأكيد لم تكن لتحتوي عليه.

ما علينا.. أحضرت إناء البصل إلى البيت، وانتقيت له زاوية مشمسة، وسقيته باستمرار.. وربما كان لخوفي من اتصال مباغت بالصوت والصورة أثر عكسي، فرحت أسقي البصيلات كلما مررت من جانبها حتى اصفرّت وبدا عليها التعب.  لا بد أنه الخريف، أو أنها عرفت أنها غير مرحب بها فلم تستطب المقام في ضيافتي-فأنا أؤمن بالودّ المتبادل بين النبات والمعتني به-. على ذكر الخريف، منذ عدة أيام انتبهت إلى أن حلمي الأخضر صار غير صالح للتنفيذ ما يعني تأجيله إلى السنة القادمة. إلى ذلك الحين، أكتفي بصبارات صغيراتٍ من زوجي وابنة خالي، صبارات حذقاتٍ لا يطلبن الكثير من الماء ويكبرن ببطء شديد فلا خوف منهنّ ولا عليهنّ.

 

بيروت 9 أيلول 2021