Nov 18, 2024

غدا

هل نكتب قصة أخرى؟

قصيدة،

مكسورة الأطراف،

لا تعجب أعزّ الناس؟

نشذّب أطرافها، 

كشجرة، 

كانت أقصى أحلامها أن تثمر،

فشذّبها فلّاح،

يده ليست بخضراء،

فلم يعد لها حلم..

ولم يشتد عودها..



هل لنا صوت،

بعد صوت الصاروخ،

نثني أعناقنا حين نسمعه،

كأننا نفوت الموت للمرة المليون..



هل لنا صورة، 

تعجبنا حين يحلّ الرحيل؟

هل لنا أغنية مفضلة؟

آية قرآنية تعتلي الخبر،

ولا يكاد يُحزن علينا،

إذ تكثر الخطوب،

وتتوالى الأرقام،

ولا تبقى أوراقنا..

ولا حواسيبنا..

ولا كلمات السرّ لبريدنا..



هل لنا كلمة أخيرة، 

قبل الوداع..

هل كانت إلى اللقاء؟

أم "يا فرج الله"،

أم " الله بيعين"..



هل كان لنا موعد مشترك،

أهداف بعيدة..

خطط، ووعود..

هل كان لنا عمرٌ، ننتظره،

ليس لنا..



هل لنا غدٌ،

أو غداً،

مربض في الجنة،

على قدر طموحاتنا،

أو على قدر أعمالنا..

أو على قدر رحمة الله..



هل لنا من إجابة، 

تتسع لكل الأسئلة؟



 ١٨ ت٢ ٢٠٢٤
بيروت




Nov 14, 2024

قبل غد - ١

قبل غدٍ..
رفيقتي الصغيرة، معكّرة سكوني، العابثة بقلبي ومشاعري وكلماتي، ابنة قلبي، شهد.. 
بعد أربع وثلاثين رسالة لك، كتبتها على مدار ثلاث سنين ونيف، قلتُ فيها أقل بكثير مما أريد، ولكن أكثر مما أريد أن أجهر به، وبعد تأجيل يوميّ على مدار المدة ذاتها، لأسباب لا يمكن اختصارها ببضع أسطر، أبدأ الآن معك رحلة جديدة، شعارها "قبل غدٍ".. أكتب لك فيها أسبوعياً ما يدور في بالي، وما يطرأ على حالنا، على نيّة أن لا أضطر إلى سرد الحكاية غداً، فلا أذكرها.. لا أستطيع الجزم بأنني سأكمل مشوار الأربع عشرة أسبوعاً، ولا أنّك ستستمتعين بقراءتها مستقبلاً... لكنني على الأقل سأكون قد حاولت.. 
--
مساء الخير، 
لا أستطيع أن أقولها دونما استحياء، بعد سويعات من مجزرةٍ كانت آخر ما قرأت، استهدف فيها العدو الاسرائيلي مركز الدفاع المدني في بعلبك.. كان رجاله يستعدون لتناول العشاء، حيث ذهب أحدهم ليحضر فروجاً مشوياً، وحين عاد...
ليتنا نستطيع اختلاق نهاية سعيدة.. 
ولعل هذه القصة لن تغير كثيراً في مجرى حيوات الكثيرين.. سيفجع البعض، ويستمر الباقون كأن شيئاً لم يكن. فقد سبق ذلك الاستهداف، مئة وتسع عشرة استهداف في أربع وعشرين ساعة...
أما أنا، فأقبع في غرفة الجلوس، أستمتع للأبواب تخفق على مهل، فأعلم أن مبنى للتوّ قد انهار إثر تفجيره في ضاحية بيروت الجنوبية. صديقة تسكن في إحدى ضواحي بيروت الأخرى تؤكد أن بيتها يهتز، فيما زميلات كثر تركن منازلهن في الضاحية الجنوبية لبيروت منذ ما يقارب الشهرين، كل يوم ينتظرن خبراً أنّ مخازن ذكرياتهنّ لا تزال على قيد الحياة.
ثمّ تخطر لي فكرة الكتابة، فأسأل نفسي، من أنا لأكتب؟ وماذا عشت؟ ألست آكل، وأشرب، وأجلس على أريكتي، تحت سقف بيتي، مع كوب المتة الخاص بي؟ وإن يكن، صوتُ صاروخ يعكر صفو اللحظة مرات عديدة في اليوم؟ وإن تكن طائرة ال MK تئزّ طوال النهار وأحياناً شطر الليل؟ وإن تكن شرفاتنا مطلّة على نكبات كثيرة؟ وشوارعنا مكدّسةَ فيها السيارات التي لم يعد لأصحابها بيوت، ولا لها مواقف.. وإن تكن صديقات لي فقدن آباءهن؟ وأخرياتٌ فقدن أزواجهن؟ وآخرون صاروا يعدّون ما تبقى لأنّ ما فُقِد لا يحصى...؟ 
أتجرّأ وأفتح الحاسوب فأتذكر أهمّية الإتقان. أخطو إلى الخلف.. وإذ أُمَنّي نفسي بتحسّن الأسلوب مع الممارسة، أتذكر جملة تغزو فكري كل فينة وأخرى.."لا أريد أن أنجح على حساب آلام الأخرين"... فأعود إلى الخلف خطوتين.. وآظل أقفز من خاطرة إلى أخرى، ويصبح رجوعي هرولة، ثم جرياً، ثم حين أتوقف لألتقط أنفاسي، أجد نفسي بعيدة جداً.. حيث لا حاسوب ولا قلم، بل صفحة بيضاء أمام عيناي، امتلأت بأسئلة كثيرة.. ولا إجابات..
من هناك، في الخلف البعيد جداً، أبدأ رحلتي الجديدة في الكتابة، حيث أكاد أغرق في عقدة النّجاة.. تحيط بي النّعم من كل حدب وصوب، حتى لأخجل من أنّةٍ أو تذمّر أو شكوى.. ولكنني أعزم على توثيق اللحظة، أن أحبس أفكاري في ملفات افتراضية، وكل ما قد يشكّل عندي ردات فعل أو تغييرات في السلوك، قد تضطرين أن تفكري طويلاً لتفهمي أسبابها مستقبلاً.. 
ماذا لو أخبرتك يا ماما، إنك في خضمّ هذا التخبّط كله، إذ أكملتِ أربع شهور من بعد العامين، قد تعلّمتِ قول "يا الله" منذ أسبوع.. كم توقيتك مذهل! تتأففين بها، وتتخيّرين طلباتك ثمّ تسبقينها ب"الله"، وتحشرينها حيث استوى معناها وحيث لم يستوِ.. ليتك تعلمين الآن يا ماما أنّ هذه الكلمة ستغنيك عن كلّ رغبةٍ بالاحتواء.. لن تضطري بعد اليوم إلى حشر قدميك الصغيرتين بكل علبة صغيرة أو وعاء تجربين إن كان يتّسع لك... فهذه الكلمة هي الحضن الأوسع، والملجأ الآمن، وفيها المتّسع من كلّ ضيق، والفرج من كل غمّ..
لقد عزمت أن أحدّثك في رسالتي الأولى لك ممَّ أخاف.. أمّا الآن، بعد أن ذكرتك، فقد رقّ قلبي وهدأ.. لذا، أترك إجابتي لرسالتي القادمة، إن كتب الله لنا عمراً..
قبلاتي،
حنّونتك،
بيروت | 15-11-2024

Nov 1, 2024

أنا بخير ولكن..

أنا بخير، ولكن..



ألو،

أنا بخير، ولكن..

نافذتي المشرفة على البحر صارت جزءاً من البحر،

وغرفتي التي يجتاحها الصخب نامت أخيراً،

وفستاني المفضل أصبح فستاني الوحيد..



أنا بخير، ولكن..

أخي وعيناه اللتان بلون القهوة صاروا رماداً،

ودراجته التي ودّ لو يزور بها أحلامه صارت حطاماً،

ولم يبق منه إلا حذاء أنتعله على عجل في طريقي إلى الذكريات..



أنا بخير،

ولكنّ أختي، 

التي صففت شعرها الأسود العادي،

ورصفت كلماتها بعناية على دفترها المدرسي،

وسألتني كلما لاح في عيني الحزن، لمَ أبكي،

بصوت أمّ،

بعثر الموت شعرها قبل أن تضيع خصلاته بين الركام..



أنا بخير ولكن،

قطتي التي لم يحبها أحد،

وأصيص وردتي التي لم تعش،

وكرّاسة أهدافي اليومية، 

كلها بقيت في "البارحة"،

حيث يمكن للأشياء العادية أن تكون..




أنا بخير ولكن،

لم يعد الماء ماءًا..

ولم يبقَ لي جدارٌ أتكئ عليه،

وكل الأكتاف ملّت البكاء...

أنا بخير ولكن، 

هل أستطيع ألا أكون بخير؟




حنان فرحات | بيروت

١ ت٢ ٢٠٢٤

Oct 24, 2024

أغلقي الباب

أغلقي الباب وراءك،
شرّعي باب الحنين،
افتحي للبُعد قلبك،
وامسِكي عنكِ الأنين..

اقبضي الجرحَ، 
عَهِدتُك،
ليس تؤذيك الخطوب..
ما لدمعٍ يستقرّ،
بينَ هرمل والجنوب؟

ما لقلبٍ لم يبالي،
حين رقّعه الطبيب...
ضاق فيه الكون لمّا..
ضامه بعدُ الحبيب..

ما لروحٍ لم تعاني،
من بعادٍ في رخاء..
تشفقُ اليوم على جدران بيتٍ من جفاء..

ما لحرفك،
أسكتته الضائمات الجائرات..
بين سطريه قذيفة،
هل يهاب الطائرات؟

ما لتفصيلٍ يعادل
نقطةً في بحر همّ..
يصبح اليوم قضيّة، 
يسأل كيفَ ومن..؟

حنان| شحيم
٢٤ ت١ ٢٠٢٤

Oct 11, 2024

نص في غير موعده

انتظرتك يا أيلول صيفاً كاملاً، ألهبَتْ شمسه قلبي... أنا التي لم أميّز يوماً بين الألوان أو الفصول أو الأشياء، قررت هذا العام أن الخريف أجمل في بيروت. فهل ألطف من نسمة تداعب وجهي فيما يصفع الصقيع والحرّ خدّي غالب أيام السنة؟

ولما جئت يا أيلول، ملأت أوراقي بالمخططات والمواعيد... وصرت أركض أسابق الوقت، وإذ بك تغادر قبل أن أنهي ما بدأت. 
لم تنته القصة، ولم تتحقق الأهداف، وصار البال مشغولاً بأشياء كثيرة جدا، لا يتقاطع أي منها مع أيامنا في الماضي القريب. 

هل أحبك بعدما تعذر اللقاء؟ أم أشتهي منظر الشجرة الذي اعتادته عيني من نافذة المطبخ، مصفرة أوراقها لأيام قليلة؟
لم أكفر يوماً بالروتين، ولم أتأفف مرةً من العادة، ولم أنس يوماً أن السقف الذي يظلل رؤوسنا، والجدران التي تعانق قلوبنا، والغرف التي تختزن ذكرياتنا، هي نعمة كبيرة لا تقدر بثمن... ومع ذلك كله، أصابتنا الفُرقة..

ولو أنك يا أيلولَ المدينة غيرُ أيلول الذي اعتدتُ طوال خمس وعشرين سنة، لكنني ألِفتك، وتواطئت معك على فرح مستتر، وأحببتك كما لو أنني أعرف الفصول لأول مرة..

وها أنت ذا ودعتنا على عجل، وجاءت رسالتي إليك متأخرة، لا أعرف أأحمّلها في طياتها الشوق أو العتاب.. ولكنني إذ أكتب لك، أدرك أنني قد كبرت.. صارت لي تفضيلاتي الواضحة بعيداً عن المجاملات.. وصرت أنت موعداً لا يُضرب بمحض الصدفة.. 

إلى لقاء آخر إذا كَتب الله لنا عمراً..

حنان فرحات | شحيم، ١١ ت١ ٢٠٢٤

Sep 27, 2024

شِعرٌ للبيع

من يشتري شِعراً،
أبدّله، 
بمصباح،
يضيء الدرب للهرب،
فأمسح قلبي المكلوم،
وأمشي.. دونما تعب..

من يشتري أدباً،
أوضّبه،
على عجلٍ،
وأحمل حبي المجنون،
والموزون، 
بأكياس، 
على رمشٍ، 
على الهُدب..

فما الداعي؟
وأين الحاجة العظمى،
لموهبةٍ،
وكلّ العمرِ والأحلام، أحملها،
فتخرق كيسيَ الأشظاء، 
وتسرقها على مهل..

أتكفي،
جملةٌ ثكلى؟ بلا معنى؟ 
بلا صوتٍ، 
بلا لونٍ، 
بلا حبرٍ،
أصفّفها،
على كفنٍ، بلا قُبَلِ؟

أيكفي الحبر، في قلمٍ،
بلا لقبٍ،
يرصّ الحرف تلو الحرف،
بهتاناً، بلا كلل..

وأين شجاعة الفرسان،
ممن يكتب الخبر،
"شهيدٌ بيننا انطلق.. 
إلى عليائه، ومضى..
شهيدٌ آخرٌ معه،
وآخر لم يُطق صبراً"

وأين الاسم من هذا؟
وهل ذا يصبح "السّبَقَ"؟
على نشراتِ أخبارٍ،
تُسائل رفقةً وصحاب،
عن الميت الذي "رُزِقَ"..

خذوا الأدب،
خذوا شِعري..
فقد جفّت معاني العُرب،
خذوا مني،
خذوا عني،
فهذا الكفّ قد تعب..

حنان | بيروت | ٢٨ أيلول ٢٠٢٤

Feb 29, 2024

رطب شفاهك

غمس رغيفك بالدم
رطب شفاهك، يا فمي

أغمض عيونك لا ترَ،
ضوءُ المحاجر قد عمي...

أنثر طحينك في الثرى،
أشبع نسور المَطعَم،

ما جاع شعبٌ، ارتقى
لو بات ليلاً يألَمِ...

شعب يسير إلى السما،
يكوي الجراح، ويلعنِ...

من يرتجيه لهدنة، 
أو فرصةٍ،
أو يفتديه بمرهمٍ،
أو يستعيض ببلسم..

رطب شفاهك، بالدم،
شعب الأباة لا ينحني،

هم عزة، 
في غزة.
من أنت يا، كي ينحني!

حنان فرحات
٢٩ شباط ٢٠٢٤ | 11.33 pm

Jan 5, 2024

عمي جميل، الجميل، إلى رحمة الله

 

في الخطوب تكثر أشكال الحزن ونكهاته، ولا يسلم أحد من مقدارٍ كتبه الله عليه.
وقد يكتب الله على أحدنا الدمع، فيهمي وافراً حتى ليظن المرء أن نهراً يتشكل، وقد يجفّ حتى ليظن المرء أن منابعهما تصحّرت، وفي كلتا الحالتين يتحوّل المحجران صخراً، ففي ذاته القسوة ومن شقّه الماء..
 
ولكم وددت لو أن لي دمعاً يكفي بقدْر الحزن، أو على الأقل، بقدْر الحبّ. ولعلي أستطيع استبدالها بالكلمات والذكريات، أرصفها في عقلي مذ استوطن المرض جسد الحنون.. لكن كيف لها أن تستقيم في اعوجاج الغياب؟ وأي ورق ذاك الذي يُنصف رجلاً كان ينظم بين النفس والآخر قصيدة؟ 
 
وليس نظم الشّعر فخراً لولا أنه يصيب المعاني في معاقلها، وليست مجالسة الأحباء زهواً لولا أنها تعمر اللسان بذكر الله تعالى، وتعمر القلب وتنعش الروح..
لم يكن عمّي أقوى الرجال، ولكنّه كان من أحنّهم،
ولم يكن أكثرهم مالاً، ولكنّه كان من أكرمهم،
ولم يكن أكثرهم علماً، ولكنّه كان من أفصحهم،
ولم يكن أعلمهم بالدين، ولكن حسبنا أنّه كان يعمل بما يعلم، ويطلب الحُجّة، ويقيم البرهان.
كانت له ضحكة جميلة، تنتشر عدواها متى بدت،
وكان يزين حديثَه بذكر النبي صلى الله عليه وسلم وما نُقل عنه من سنن وأحاديث،
وكان لنا نصيب من أبيات شِعره التي تؤنس الفؤاد، حتى أواخر أيامه، حيث أنهك المرض جسده ولكن لم يُنقِص حبّه ومودّته..
 
ومهما كان نصيبنا منه في الدنيا، فإن الطمع في لقاء الآخرة، حيث لا فراق ولا شوق ولا أحزان..
إلى ذلك الحين، نسأل الله أن يرزقه درجة الأولياء والصالحين، ويغفر ذنوبه وزلّاته، ويجمعه بمن يحب ونحب ممن سبقنا إلى جوار الله عز وجل، ويستقبلَه بعفوه وكرمه في جنة عدن حيث لا سقم ولا تعب ولا همّ ولا حزن..
لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى 
 
إنا لله وإنا إليه راجعون
 
عمي جميل (أبو أحمد) في ذمة الله
٥ ك٢ 2024

Dec 30, 2023

رسالة إلينا في العام الجديد

 

شهد الغالية،
 
وددت أن أكتب لك ختام العام رسالةً أهمس فيها إليك ببضع كلمات، أدون ذكرياتك ومشاعري تجاهك.. لكن أمهات كثيرات تكتب تحت صور أبنائها على وسائل التواصل كيف كانوا وكانت أحلامهم وضحكاتهم قبل أن يتحولوا إلى أشلاء.. أشتري لك الثياب والألعاب فيما يودع الآباء بسكويتاً وجوارب في أكفان أطفالهم، أطعمك وأسقيك وأهذب شعرك فيما تحشّ الأمهات ما تيسّر لإطعام أفواهٍ لها، وأخرى تُركت لا يُدرى لها راعٍ ولا كفيل... يصل الماء إلى عتبة منزلنا يا ماما في حين يُستهدف رجالٌ يسعون بالماء لأهليهم وللنازحين، ندون قوائم إنجازاتنا فيما تتلخص قوائم آخرين بالنجاة، ونطيل لوائح الأمنيات فيما يختصرونها بالنجاة.
 
لم يكن العالم على غير هذه الصورة أبداً، ولم تكن الصدفة سبباً في كل ما يحصل، بل أقدارٌ نسأل الله أن يهيئ لنا الصبر إذا وقعت، والحكمة إذا طالت، والرضا بما قُسِم لنا. ولكننا نسعى بما بين أيدينا، ونقيم وزناً للكلمة في نصرة الحق، ونبذل الجهد لإحياء الضمائر وإيصال الأمانات؛ أنهم لم يكونوا يوماً إلا أهل حق، لم يكونوا أفكاراً عابرة، بل بشراً من لحم ودم، لهم ذكريات وأماني وإنجازات، ولهم أحبة وأماكن مفضلة وتفاصيل تخصّهم وتفضيلات يحبّذونها، وإن اصطفاهم الله في هذه الأرض الطاهرة، فنسأل الله لهم العون والصبر، وأن يستخدمنا ولا يستبدلنا، وأن يكتب لنا نصرة إخواننا قولاً وعملاً.
 
لتكن هذه الرسالة وصيةً وتذكرة لي ولك، أن لا نحقرن من المعروف شيئاً، فرُبّ كلمةٍ تهزّ عروش الطغاة، ورُبّ دعاءٍ يسدد الرّمي، ورُبّ حشدٍ يصيب العدو في المقتل
🙏
حنان فرحات
بيروت
ك٢ ٢٠٢٤

Aug 19, 2023

تين ساحلي

منذ أسبوعين تذكرت التين، وظننت لوهلة أن الموسم فاتني دون أن أدري، وإذ بي ألمح حبات خضراء زاهية اللون عند أحد باعة الخضار في الحي مصطفة أمام دكانه. دكانه هذا الذي يشرف على شارع طويل ويفصله عن طريق سريع صفٌّ واحد من الأبنية، لا يحول دون وصول دخان خوادم السيارات والدراجات النارية إلى خضرواته.
 
قلتُ له باستغراب: "ظننت أن الموسم فات!"
فطمأنني أن الموسم يبدأ أوائل شهر أيلول، وأن هذا "تين ساحلي"، وكأنها تهمة لا حجة. شاركَته قريبتنا بعد سويعات رأيه، إذ رفضت رفضاً قاطعاً أن يشبه تيننا بأي شكل من الأشكال. 

تينُنا الرفيدي -نسبة إلى قرية الرفيد- الذي إن لم تقطفه بيديك مباشرة، أكَلتَه قطافَ يدٍ تحبها.. وكل ما ازداد احمرار حبة التين أخضرَ القشرةِ، أو حلاوة حبة التين الأسود الصغيرة، أو تسرب القطر من التينة 'العسالية'، تذكرت كفّيْ جدي تمام السادسة صباحاً تطرق باب منزلنا، ثم تفتح صندوق السيارة، يقاطع توالي الأحداث صوت أجش يطلب وعاء، ثم يلومني على صغر الوعاء الذي أحضرته، تغرف الكفّ من إناء كبير تيناً -وقثاء وعنباً-.. صندوق سيارة جدي يتسع لبستان، تماماً كما تتسع حقيبة الأمّ لمنزل.

أفكر فيما أضع كيس التين 'الساحلي' على حافة حوض المغسل، ماذا سأحمل بيدي لأحفادي بعد عشرين سنة أو أكثر؟ هل أضع في الصحن نصاً شاعرياً وعواطف مكتوبة؟ ثم أنظر إلى صغيرتي شهد وأسألها إن كانت ترغب بتذوق التين. تهز رأسها كما تفعل عند كل سؤال فأفسر الإجابة على خاطري،..
 أستعيد حواري مع البائع، "كيف أزيل الأوساخ عن التين إذ تضعه على حافة الطريق؟" فجاء جوابه غريباً بقدْر غرابة توفر التين مبكراً: "ليه الشجرة وين بتكون؟"
نقلت التين من الكيس إلى وعاء في حوض المغسل، وتذكرتُ غربة مريد البرغوثي التي بدأت حين اضطر إلى شراء زيت الزيتون في قنينة بدل الجرار التي اعتاد.. يبدو أن الغربة تسكن تفاصيل كثيرة أكثر بكثير من البعد أو الشوق. 

سكبت المياه في الوعاء وأغمضت عيني واستغفرت الله.. من يغسل التين يا الله! لم تقوَ أصابعي على فرك الحبيبات جيداً، أخرجتها من الوعاء ومسّدتها بمحارم ورقية أجففها كمن يستسمحها، ثم قطعت حبةً نصفين وناولت نصفاً لشهد، 

وضعَته في فمها ثم لَفَظَته. 

تين ساحلي، على رصيف شارع، في كيس، ثم يُغسل؟ كيف كانت ستبتلع ذلك كله!

حنان فرحات | بيروت | آب ٢٠٢٣

Jun 21, 2023

حُبٌّ بحُكم العادة

 

في يوم ما، قبل 2006:

دخلت إلى ملعب المدرسة المسقوف المعتم، ثم مشيت إلى آخره وعيناي تغرقان بالدمع. يميناً صنابير تسيل مياهها إلى حوض ضيق بموازاة الجدار، ويساراً نوافذ كبيرة تطل على الملعب الصيفي الكبير. أما في مواجهتي فنوافذ طويلة تطل على الأشجار التي تغطي سفح التلة حيث تتربع المدرسة.
غسلت وجهي بعد أن فتحت عدة صنابير على عجل لعل الماء ينزل من إحداها أخيراً، ثم تقدمت إلى النوافذ الطويلة. أحنيت رأسي إليها، واسترجعت اللحظات الماضية الثقيلة التي كادت ألا تنتهي.
*
لدينا فحص نظر اليوم في المدرسة. بين كل فترة وفترة؛ يأتي وفد طبي من الدولة الكريمة، يبشرنا بطُعم جديد نتاجه إبرة في الكتف أو قطرة مريرة نتجرعها دون حول منا أو قوة. أما فحص النظر هذا فبدعة جديدة! ما لهم ولعيوننا؟
اصطففتُ ورفاقي أمام الغرفة التي انقلبت من فصل دراسي إلى عيادة طبيب عيون بين ليلة وضحاها، أو قل بين حصة دراسية وأختها..
وبدأ الوافدون يخرجون تباعاً بالفوز المظفر، وكأن فحص النظر اختبار وقد أعدّوا عدّتهم جيداً قبل المعركة. لم يقل أحد ما الذي في الداخل، كأن لكلٍّ قدره، ولا غش في المسألة.
حان دوري فدخلت بتردد المقصّرين، وانتظرت توجيهات الحاضرين، ثم مثل المنام أنهيت ما عليّ وصرت في رواق المدرسة دون أن أدري كيف خرجت. ولأن النتيجة لم تكن مُرضية، أنستني تفاصيلَ العملية، لكن ما لم أنسَه أبداً سؤال ظل يرن في رأسي سنيناً عديدة: "هل لديكم ضعف نظر في العائلة؟"، فهززت رأسي إيجاباً، قلت "أبي"، فهز رأسه واثقاً : "إذن بالوراثة". وانقلبت الدنيا رأساً على عقب في عيني. خرجت هائمة على وجهي لا أدري أين أذهب أو ماذا أقول.

توجهت إلى الملعب "الشتوي" المسقوف، غسلت وجهي بعد أن فتحت عدة صنابير على عجل لعل الماء ينزل من إحداها أخيراً، ثم تقدمت إلى النوافذ الطويلة. أحنيت رأسي إليها، واسترجعت اللحظات الماضية الثقيلة التي كادت ألا تنتهي.
لم تكن مشكلة أبداً أن النظارات سترافقني بعد ذلك اليوم سنوناً عديدة، ولا أنني أشترك مع والدي بالأمر، لكن ما كبر في قلبي وعقلي في آن: "كيف سأخبره بالأمر دون أن أحزنه!"
**

2011

جالسةٌ في كرسيي عند الطاولة الأولى قبالة طاولة المعلمة. تشرح المعلمة وتستفيض، وأركز أحياناً ثم أشرد. أنزل نظاراتي الطبية حيناً، ثم أعيدها إلى وجهي. أتابع ما تقوله المعلمة باهتمام، وأجيب كلما اقتضت الحاجة على سؤالها.

لم أكن يوماً من المهتمين بالعلامة الكاملة، بقدر ما كنت أهتم ببذل قصارى جهدي. ولم يكن يعنيني أن أكون الأولى في الفصل، بالرغم من تصنيفي مع التلاميذ النجباء. ولا أخفيكم سراً، قد يكون عدم سعيي لذلك لعدم إيماني بقدرتي على المنافسة. لم أحاول فلم أفشل. ولكنني عند هذه المعلمة بالذات، أحببت التفوق وألفتُه. كان سهلاً ممتعاً، فسعيت إليه.

وفيما تشرح المعلمة، وأتابع، كما كل رفاقي في الصف، أنزلت نظاراتي الطبية، ثم أعدتها عدة مرات. لا أذكر لمَ، قد يكون لاحتقان في أنفي، أو ضغط في أذني، أو انزعاج من احتكاكه بحجابي، أو ارتباك دون أي سبب..لكنني أذكر تماماً أنها أربكتني كملاكم لا يدري من أين تأتيه اللكمة التالية.. وفيما كانت تدور معركتي الخاصة، كان يسير شرح الدرس بسلاسة لا يعكر صفوه ضجيج صراعي..

ولأنني مهما كنت منشغلة، أُبقي على سمعي مع المعلمة لربما باغتتني بسؤال ما، وإذ بها تضرب مثلاً للطلاب عن صاحب معمل يطلب موظفين للعمل لديه، ثم تتبعه بالسؤال التالي:

"هل يا ترى سيوظف صاحب المعمل أشخاصاً يرتدون نظارات طبية، بحيث يضيعون نصف الوقت في تعديل وضعيتها؟ أو يختار من لا يرتدي نظارات حتى يزيد الانتاجية؟؟"

كانت تلك المرة الأولى التي أنزل يدي فيها إجابة على السؤال، بدلاً من رفعها للإجابة عليه.

 

**

 2014

 
غرف كثيرة، رائحة تعقيم، بلاط براق، لون أبيض ناصع كيفما اتجهت، وصراخ آنسةٍ يشق صمت الحاضرين، مصدره غرفة قبالتي. اُدخِلتُ غرفة أو اثنتين، تصوير مقطعي وغيره من الفحوصات اللازمة قبل الإجراء الأخير، ولحظات وداع بطيئة لنظاراتي وعدساتي اللاصقة في آن، يعكر صفوها توقعات الألم لعدة أيام مقبلة.
حين حان دوري ودخلت، لم يكن هنالك ما يثير الهلع. بل بالعكس.. سرير أسود عادي جداً(وربما الجيد في الأمر أنه لم يكن أبيض اللون)، ماكينات بسيطة لا يبدو عليها أثر التعقيد.. لا رائحة لدماء أو مصل في الأجواء.. كل ما في الأمر انتظارُ دقائق حسب ما تقول الممرضة. طلَبَت مني أن أتمدد على السرير ثم حيّتني على جرأتي. ثبَّتَتْ جفناي بملقط وأنزلت بضع قطرات مخدر فيهما ريثما دخل الطبيب. وجّه إلى بؤبؤاي تِباعاً شعاعاً أحمر ثم شممت رائحة احتراق بسيطة. لحظات، ثم خرجت من الغرفة مرفوعة الرأس، تعلو أنفي نظارة أيضاً، لكنها هذه المرة شمسية...
**

ما الأجمل من استيقاظة هادئة، لا يعكر صفوها شيء، ولا حتى اضطرارك لوضع النظارة حتى تستطيع تبيان عقارب الساعة قبالتك بوضوح؟

تدخل أشعة الشمس دونما استئذان عبر ستائر الغرفة، تتعارك مع أغصان شجرة المشمش الطويلة بلا غلّة، ثم تنساب على أعيننا، فإن لم توقظنا بنورها، فعلَت بحرارتها المرتفعة. 

**

أسير في الجامعة مع صديقة تشاركتُ وإياها سنوات دراسة عديدة، قبل أن نتشارك تجربة "الفراق" عن النظارات الطبية. ترتدي كلتانا نظارات شمسية لتمنع الضوء القوي ونسمات الهواء من الوصول إلى أعيننا في إجراء قسري ريثما طابت من العملية، فيما تصل إلى آذاننا تعليقات بعض الطلبة إذ يستغربون همساً وجود نظارة شمسية على وجه إحدانا التي لا يعرفُ ولا يخصُّه أمرُها دوناً عن غيره.  

**

2017

تتوالى قطرات الترطيب التي سمعنا كثيراً عن ضرورة الالتزام بها عدة أشهر، وتتوالى الأيام. تتكرر الصباحات الجميلة، وغيرها الممتعضة.. كما ساعات الدراسة الكثيرة.. ويُتعب العينينَ الشوق...

في زيارة تالية بعد سنتين أو ثلاث، يزفّ الطبيب الخبر. عيناك تعبتان. "جيد أن التعب ليس في قلبي"، أحدث نفسي. يكتب لي وصفة طبية "للاحتياط"، وأضحك في سرّي، هذه فرصتي للانضمام إلى لابسي النظارات الطبية بطريقة ألطف، بعد أن أصبحت النظارات "موضة" منذ سنوات.. وتحديداً بمجرد أن خلعتها.

**

2022

"أظن أن عيناي تتعبان أكثر من ذي قبل ليلاً"، أحدّث زوجي فيما أقلّب بعض الأوراق.. أو ربّما تسبب حملي الأول بضعف في نظري.. "قد أنبأني الطبيب ذات مرة أن الحمل يسبب ضعف النظر.."

أحاول أن أريحهما بعد استعمال الشاشات الإلكترونية. أمضي بعض الوقت وأنا أتأمل البنايات من نافذة المنزل. أتساءل في سري إن كان هذا يعوض عن "النظر إلى المساحات الخضراء البعيدة".. إن الأمر أشبه بالتداوي بالأعشاب بالمقارنة مع منتجات علم الصيدلة. "هذا المتوفر بكل حال".. أزفر ثم أعود إلى عملي...

**

2023

"ما رأيكَ أن تفحصَ عينيك؟ سآخذ موعداً لي ولك"، قلت لزوجي فيما أحدّث قائمة الواجبات الأسبوعية.. وقبل أن يهزّ رأسه بالإيجاب، كان الموعد قد ضُرب.

هذه المرة حفظت درسي جيداً. لا مفاجآت. لن يتهم أحد عيني بالتقصير، ولن يمس أحد الأسباب الجينيّة.. لن نتطرأ لهذا الموضوع أصلاً... أجريت بعض الاتصالات مع أهلي أتأكد من تفاصيل العملية التي سبق وأجريتها، وأخذت نظاراتي التي بالكاد أستخدمها لربما طلب رؤيتها الطبيب الجديد.

وبعد انتظار طال -كما يطول كل انتظار-، والإجراءات الروتينية التي يتطلبها الأمر، وصلنا إلى كرسي العيادة المنشود. جلس زوجي على كرسي المحاكمة، فيما أنتظر جانباً دوري بتوتر الطالبة النجيبة، التي تدعي أن المركز الأول لا يهمها ثم ترمقه بعين المُحب، ولم يطل الأمر حتى صدر الحكم بالبراءة.

"وضعُكَ مستقر"، قال الطبيب لزوجي ثم أشار إليّ للتقدم.

جلستُ على الكرسي جلسة المعتاد على الامتحان، العارف لكل الأسئلة. قدمتُ رأسي ووضعت ذقني حيث يجب. نظرت بعيني اليمنى حيث أشار الطبيب بإصبعه، وركزت جيداً نظري بالعين الأخرى حيث طلب. توقف الزمن للحظات لا يرمش فيها جفناي انصياعاً للأوامر، ضوء يُشعّ تماماً في منتصف المدى.. ثم انتهى.. أسندت ظهري قليلاً إلى الوراء.

"ارمشي قليلاً،.. تمام، أعيدي ذقنك إلى حيث كان، انظري إلى إصبعي هنا.. لحظات وننتهي، لا ترمشي بعينك.. همم.. أنهينا"

"يبدو أن علينا أن نعيد الفحص مع توسعة للبؤبؤ للتأكد من النتيجة"، قال الطبيب،

"لقد أجريت عملية لعيني منذ عدة سنوات.."

توالت الأسئلة والإجابات، لم تكن كتلك التي درست. لم يتّهم أحد جيناتي هذه المرة، بل انصب اللوم على مسار العملية الأولى... ولكن الشعور بالخيبة كان ذاته.

غادرنا العيادة، بصحبة وريقة تستقدم صديقاً قديماً جديداً: نظاراتي الطبية. نظارات تعود بدون لوم أو عتاب، تماماً كأشياء كثيرة تغيب ثم تعود. قد لا نفرح لعودتها، ولكننا لا نأسف لوجودها.. بل ربما نفهمها أكثر، وقد يكون لها نصيب من الحب يوماً ما، حبٌّ نكتسبه بحكم العادة، لا بحكم العقل والقلب.

حنان فرحات | بيروت، رأس النبع

22-6-2023 12:24 بعد منتصف الليل

 

Nov 25, 2022

رسالة رقم ١

شهد الغالية،

هذه الرسالة غير سابقاتها، أكتبها في وقتها تماماً، فلا يتغير الشعور ولا ينطفئ المعنى.
بك صار تعداد الأيام فنّاً، ومعك صار الوقت أقيم، والفرح أسمى، والحبّ أجلّ!

بك، يا ماما، أدركتُ كم تحبني أمّي.
هذا لا يعني أنني لم أدرِ من قبل، ولكن بعض الدروس أنفعُ بالتجربة. لقد قرأت صباحاً أنّ كل أنثى أمّ، وإن لم تلد. ينتابها شعور العطاء على هيئة حياة بكل تفاصيلها، فتُطعم وتهتم وتُداري وتطبطب وتسمع. وأنا إذ أبصرك حقيقةً بعد إذ كنتِ فكرة خلّابةً، ثم صرتِ حركةً أشعر بها في أحشائي، أدركت سرّ رغبتي العارمة بالطهي والخَبز، وسعادتي الجمّة بفنجان قهوة أعدّه. 

 أدركت أن الاستيقاظ معك أبهى من النوم المطمئن، والنوم على صوت أنفاسك أهنأ الليالي، ومحاكاتك أمتع أنواع السمر.. وبذا أدرك كم بذل والداي من الحبّ خلال مسيرة تربيتهما لنا، ولو أنه يخيل إليّ أنها ابتدت أمس، إلا أنها تكاد تلامس الثلاثين سنة.. هل ستمرّ سنوننا سوياً بالسرعة ذاتها؟ 

ماما،
يا قطعةً من فؤادي،
أتدرب يومياً على فكرة إفلاتك.. فأنا إن أمسكت يديك للأبد، لن تكون لك فرصةٌ للسير في رحلتك الخاصة! أحاول أن أتشاركك مع المحبّين، أن أتهيأ لأحلامك الكبيرة التي قد لا تتناسب مع تطلعاتي، وأن لا يكون لديك متسع من الوقت للدردشة صباحية قبل أن تتوجهي إلى عملك! ولكن هل عليّ الاستعداد فعلاً منذ الآن؟ 

أتفكر كثيراً فيما إذا كنت ستكبرين ابنة مدينة أم ابنة قرية.. أي انتماء ستعلنينه بفخر؟ أو هل سيتعلق قلبك بمكان أم بترحال؟ أنا التي كنت أرغب في بداية جميلة لك كتلك التي عشت-ولعل ذلك من أنانية الأم-، سأنقلها لك حكايةً طويلة قد تملّين من تفاصيلها أو تكرارها.. سأكتبها لك، وقد لا تحبين القراءة... ولكنك بذلك قد تكسبين أكثر من حياة! 
-لن أكتب عن قرية والدك، لعل الغيرة تدبّ في قلمه فيكتب لك-

كلامٌ كثيرٌ يا ماما، كلام كثير. لنا عودة في رسالة أخرى..

حنان¦ شحيم ٢٠٢٢

رسالة رقم ٢

شهد الغالية، 🍯

كل يوم يولد أطفال في هذا العالم. كل يوم يغادر أحدهم رحماً حنوناً إلى عالم يُظنّ أن يكون أكثر إشراقاً. كل يوم يصرخ أحدهم صرخته الأولى فيما يبتسم والداه، مذعورٌ لفراقٍ يظنه آخر الحياة، فيما يكون مجرد بداية.

تسير الأيام ببطء فيما ينظران إلى عينيه، حتى إذا ما التفتا عنه قليلاً هرولت الساعة كأنها تغافلهما. بعد أشهر قليلة وأخرى كثيرة، ينظران إلى الصورة الأولى بشغف ثم يقول أحدهما للآخر: كأنه الأمس!

يراقبان حركاته كأنهما في إعدادٍ مستمر لاختبار مهم. يتدارسانه، وزنه وطوله وملامحه، سَكَناته وردّات فعله، نومته وجلسته ووقفته وحروفه ونظراته.. يقارنان نموّه بمعدلاتٍ عالمية، هل يواكبها، أم يتقدم عنها، أم يتأخر؟

يفهمان معجزة الكون، كيف كانا وإلامَ صارا.. ويتفكران في غَدِه. لكن فيما هما في غمرة الأحداث وتسارعها، يظنان وليدهما الأفضل والأذكى والأعزّ إلى أي قلب على وجه الأرض... أنّ أحداً لم يكن بذكائه فيما يخطو خطوته الأولى، وينظر نظرته الأولى.. أنه الوحيد الفريد، الذي لا أفضل منه ولا أغلى.. ناسينَ - أو متناسين- أن المعدلات العالمية هي نتيجة لولادات كثيرة كانت كلها لأطفال يشتركون في أنماط وطرائق النمو.. 

أتعبتك يا ماما بحديثٍ حدثتُ به نفسي؛ الخلاصة يا عزيزة، كأنك قدِمتِ الأمس. وكأنك الأذكى على الإطلاق؟

أمك
بيروت في ٢٥ ت٢ ٢٠٢٢

*جعل الله لكل وليد حضناً دافئاً وسكناً آمناً، ولا حرمَ زوجين الذرية الصالحة🙏