إن تفصيلاً صغيراً كفيلٌ بقلبِ كيانك أربعاً وعشرين ساعة، ما لك لا تأبه بالتفاصيل؟
Dec 16, 2016
"تحرّرت حلب"
Dec 12, 2016
في البَرْد
البرد أزيز الباب، وحفيف الكفّين ذهاباً وإياباً يحتكّان، وزفيرٌ يحمل من الباطن أملاً بالدفء يخرج على شكل ظل غمامة.. والبرد أوصال ترتعد، ورُكَبٌ تهتز، وأسنان تصطك. وهو الأبيض يغطي الأرض ملحاً وفيراً، والثلج يذوب نهراً غزيراً، والمياه تشتاق إلى الأرض فترمي بنفسها من سطح المنزل، والسطح يتمسك بمياهه فيجمدها أشواكاً مسننة، والشمس تستميحه أن يسمح لها بالنزول.
والبرد وحدةٌ قرب المدفأة، وغيرة من أخشاب تحترق متكاتفةً في حضنها. والبرد فكرة تجتاح سكون الليل فتأجج الاشتياق. والبرد همسة تنقل خبراً سيئاً، ونظراتٌ متسمرة عليك كأنها تقرأ ما يدور في خلَدك، وهمزات أصدقاء في غيابك، ولمزات أقرباء في ضعفك.
البرد نصل سكين هو أهون الأمرّين، وجِلسةٌ منكفئة في زاوية، وساعدان متشابكان علهما يتدفآن.
والبرد جندي من جنود بلادي يؤدي واجبه، وحارس ليليّ هو الساهرة عينه، وطبيب في غرفة التخدير، وعاملٌ عمله في سبات، وطائر أضاع سربه المهاجر، ونملة متأزرة بحبة قمح دهسها الجهل، ونحلة مختبئة في قفيرها إلى حين يأتي الربيع.
والبرد صحن فارغ، وبالٌ مشغول، ويد منهمكة.
وهو كفّ تغسل وتطهو وتنظف.
وأما أشدّه فبدنٌ متيبس، طعامُ الدّيدان.
Dec 11, 2016
التابوت
يقِفُ كما في كلّ سنةٍ عند رأس التابوت ذاته، لكنّه هذه المرّة لا يسمع لهاثه. فالدرس الجديد الذي أضافه إلى سلسلة المجلّدات التي يحاول عبثاً حفظها في رأسه يقضي بأنّ موعده مع هذا التابوت مُقّدّر: فهو إما أن يصل، أو لا يصل. لكنّه، أبداً، لا يتأخر.
في جعبته الأفكار التي قضى أياماً وإياها، تترنّح في رأسه كما الهذيان. وبيده حقيبةُ أوراقٍ ومستندات وفواتير، وعلى جبهته، متعامدة تماماً مع عينيه، علامات تركتها الانتكاسات التي تولّد في قلبه ريحاً قليلاً ما تهدأ.
فتح التابوت، كما في كلّ مرة. أزاح بيديه الثخينتين التَّعِبتين خشبه العتيق بعمر الصرخة الأولى، فتسربّت رائحة عفن وقِدَم. لن يستطيع إغلاق أنفه كي يتفادى الرائحة، فإزاحة الغطاء تتطلب مجهوداً هو ذاته الذي يضبط المخبوءات عن الإفلات. وبينما تتفلّت من التابوت غمامة ذكريات، داهمته موجة سعالٍ أبعدتها عنه.
ألقى نظرة على ما فيه. الحقائب الجِلديّة المُبهِجة التي يرميها في قعره كلّ سنة ويرمي معها ضحكاته وانتصاراته. ثمّ إلى اليمين قليلاً صناديق المشاوير، وملفّات الزيارات والواجبات، وأكوام الفواتير من الطبيب والناطور وعامل الموقِف. في زاوية أخرى وجَد غلاف سكاكر فارغ أعطاه إياه طفل في الحافلة، غلاف فارغٌ إنّما ملوّن. ابتسمَ وهو يتناوله مُظهراً أسنانه التي أهلك لونها التدخين وأضاعت جوانبها اتّكاءات السجائر، ثمّ أشاح بوجهه إلى الوشاح الأسود. ذاك الذي لبِسه عزيزٌ في حداده على عزيز آخر.. قبل أن يغيب الاثنان.
من تحت الأغراض يُطِلّ غلاف كتابٍ كما نور الشمس في يوم ممطر. خجِلاً، يُذكّره بيومٍ جميلٍ، وقصة جميلة، ونهاية مضى على انقضائها شطر من الزمن. وإبرة وخيط رتق بها حوادث عابرة.. خاطَها أحداثاً كان يمكن لها أن تقفز من مخيّلته إلى الواقع لولا شيءٌ ما، لم يكن يملكه. وورقةٌ لزهرة لم يشأ أن يقطفها، وكوبٌ أخذ القرار فجأة بأن يُحيلَه إلى التقاعد، وتنهيدة على شكل أزرار قطعها عن أصلِها في لحظة غضب، وحبر على قطعة قماش، خانَه يومَ أراد البَوْح.
سمع الجرس يُدقّ. لقد أطال الزيارة هذه المرّة. أخرج رأسه من التابوت، وتناول بأسىً، أو ربما فرح، الكومة التي أتى بها. حمَلها بعجزٍ كاضطراب أمّ تسمع للمرة الأولى بكاء ابنها، ثم رفعها حتى وصلت إلى حافّة التابوت ودحرجها إلى الداخل. ألقى نظرةً أخيرة، ربّما لن يتّسع التابوت لعودةٍ أخرى، أو قد يبتلع شيئاً ممّا يُلقِمه فيفرغ مكاناً للجديد.
وضع يديه على حافّة التابوت، ثمّ دفع نفسه وقوفاً. ابتلع أكبر كمية من الهواء الذي يحسّ به يتسرّب من رئتيه المتهالكتين، فشمّ فيه رذاذ الذكريات. ابتسم، لكل الخيبات والضحكات، ثمّ همّ بإغلاق التابوت ليبدأ رحلة البحث من جديد؛ رحلة البحث عن بائع الوقت الذي قد يطيل عمر يومه قليلاً فيجد متّسَعاً لفعل ما يريد، لا ما يجب.
حنان فرحات
بيروت
في كانون الأول 2016