قبل غدٍ..
رفيقتي الصغيرة، معكّرة سكوني، العابثة بقلبي ومشاعري وكلماتي، ابنة قلبي، شهد..
بعد أربع وثلاثين رسالة لك، كتبتها على مدار ثلاث سنين ونيف، قلتُ فيها أقل بكثير مما أريد، ولكن أكثر مما أريد أن أجهر به، وبعد تأجيل يوميّ على مدار المدة ذاتها، لأسباب لا يمكن اختصارها ببضع أسطر، أبدأ الآن معك رحلة جديدة، شعارها "قبل غدٍ".. أكتب لك فيها أسبوعياً ما يدور في بالي، وما يطرأ على حالنا، على نيّة أن لا أضطر إلى سرد الحكاية غداً، فلا أذكرها.. لا أستطيع الجزم بأنني سأكمل مشوار الأربع عشرة أسبوعاً، ولا أنّك ستستمتعين بقراءتها مستقبلاً... لكنني على الأقل سأكون قد حاولت..
--
مساء الخير،
لا أستطيع أن أقولها دونما استحياء، بعد سويعات من مجزرةٍ كانت آخر ما قرأت، استهدف فيها العدو الاسرائيلي مركز الدفاع المدني في بعلبك.. كان رجاله يستعدون لتناول العشاء، حيث ذهب أحدهم ليحضر فروجاً مشوياً، وحين عاد...
ليتنا نستطيع اختلاق نهاية سعيدة..
ولعل هذه القصة لن تغير كثيراً في مجرى حيوات الكثيرين.. سيفجع البعض، ويستمر الباقون كأن شيئاً لم يكن. فقد سبق ذلك الاستهداف، مئة وتسع عشرة استهداف في أربع وعشرين ساعة...
أما أنا، فأقبع في غرفة الجلوس، أستمتع للأبواب تخفق على مهل، فأعلم أن مبنى للتوّ قد انهار إثر تفجيره في ضاحية بيروت الجنوبية. صديقة تسكن في إحدى ضواحي بيروت الأخرى تؤكد أن بيتها يهتز، فيما زميلات كثر تركن منازلهن في الضاحية الجنوبية لبيروت منذ ما يقارب الشهرين، كل يوم ينتظرن خبراً أنّ مخازن ذكرياتهنّ لا تزال على قيد الحياة.
ثمّ تخطر لي فكرة الكتابة، فأسأل نفسي، من أنا لأكتب؟ وماذا عشت؟ ألست آكل، وأشرب، وأجلس على أريكتي، تحت سقف بيتي، مع كوب المتة الخاص بي؟ وإن يكن، صوتُ صاروخ يعكر صفو اللحظة مرات عديدة في اليوم؟ وإن تكن طائرة ال MK تئزّ طوال النهار وأحياناً شطر الليل؟ وإن تكن شرفاتنا مطلّة على نكبات كثيرة؟ وشوارعنا مكدّسةَ فيها السيارات التي لم يعد لأصحابها بيوت، ولا لها مواقف.. وإن تكن صديقات لي فقدن آباءهن؟ وأخرياتٌ فقدن أزواجهن؟ وآخرون صاروا يعدّون ما تبقى لأنّ ما فُقِد لا يحصى...؟
أتجرّأ وأفتح الحاسوب فأتذكر أهمّية الإتقان. أخطو إلى الخلف.. وإذ أُمَنّي نفسي بتحسّن الأسلوب مع الممارسة، أتذكر جملة تغزو فكري كل فينة وأخرى.."لا أريد أن أنجح على حساب آلام الأخرين"... فأعود إلى الخلف خطوتين.. وآظل أقفز من خاطرة إلى أخرى، ويصبح رجوعي هرولة، ثم جرياً، ثم حين أتوقف لألتقط أنفاسي، أجد نفسي بعيدة جداً.. حيث لا حاسوب ولا قلم، بل صفحة بيضاء أمام عيناي، امتلأت بأسئلة كثيرة.. ولا إجابات..
من هناك، في الخلف البعيد جداً، أبدأ رحلتي الجديدة في الكتابة، حيث أكاد أغرق في عقدة النّجاة.. تحيط بي النّعم من كل حدب وصوب، حتى لأخجل من أنّةٍ أو تذمّر أو شكوى.. ولكنني أعزم على توثيق اللحظة، أن أحبس أفكاري في ملفات افتراضية، وكل ما قد يشكّل عندي ردات فعل أو تغييرات في السلوك، قد تضطرين أن تفكري طويلاً لتفهمي أسبابها مستقبلاً..
ماذا لو أخبرتك يا ماما، إنك في خضمّ هذا التخبّط كله، إذ أكملتِ أربع شهور من بعد العامين، قد تعلّمتِ قول "يا الله" منذ أسبوع.. كم توقيتك مذهل! تتأففين بها، وتتخيّرين طلباتك ثمّ تسبقينها ب"الله"، وتحشرينها حيث استوى معناها وحيث لم يستوِ.. ليتك تعلمين الآن يا ماما أنّ هذه الكلمة ستغنيك عن كلّ رغبةٍ بالاحتواء.. لن تضطري بعد اليوم إلى حشر قدميك الصغيرتين بكل علبة صغيرة أو وعاء تجربين إن كان يتّسع لك... فهذه الكلمة هي الحضن الأوسع، والملجأ الآمن، وفيها المتّسع من كلّ ضيق، والفرج من كل غمّ..
لقد عزمت أن أحدّثك في رسالتي الأولى لك ممَّ أخاف.. أمّا الآن، بعد أن ذكرتك، فقد رقّ قلبي وهدأ.. لذا، أترك إجابتي لرسالتي القادمة، إن كتب الله لنا عمراً..
قبلاتي،
حنّونتك،
بيروت | 15-11-2024