كنّا نسير مداداً
كالسّيل العارم، نقطع المسافات كأنها حقول تُضحي بساتين حيثما نمُرّ، لا يفرّقنا
شتات الطّرقات، فإذا وجدنا مفترقاً انقسمنا دون أن يُنقِص ذلك منّا عدداً، كأنّنا
مياهٌ حُبست دون سدٍّ، ثم إذا ما فُتحت لها فوهةُ الخروج تكاثرت عليها حتى حطّمت أطرافها
وفرضت طريقها للخروج.
وكنّا إذا ما
مررنا بجانب البيوت أخرجنا أصحابها بقوّة صوت الحقّ، كأنّ فينا جاذباً لا يكاد
يلوح في الأفق حتى يجلب الرّوح للأجساد الهامدة القابعة في خذلانها، فتنتفض وتقف
كأنّ بها عزم سنين، ثم تلتحق بالجموع تاركة وراءها أشغالها وأملاكها وأولاداً
يلعبون أمام عتبات المنازل، كأنّ في الدنيا أماناً على ما تخلُف وراءها، وكأنّها
ذاهبة إلى غير الموت..
وكنّا حيث حلَلنا
تتردّد في الأجواء نبضات قلوبنا كأنّها أصوات مدافع، فقلنا ولم ندرِ ما نقول..
ومشينا ولم ندرِ كم فعلنا.. وتكاتفنا كما لا يفعل الأشقاء..
وكنّا إذا عثَر
الواحد منّا وجد الأيدي ترفعه دون أن تنظر إلى من تُمَدّ..
وكنّا إذا سار
فينا الشّيخ فسحنا له، وإذا سار فينا الطّفل رفعناه على الأكفّ، وإذا سارت فينا
الأخت ساويناها بنا زمنَ أضحينا كلُّنا بذرة واحدة في طين واحد..
وكانت الأرض تَطوي
صفائحها ككتابٍ عظيمِ الأوراق بارز الحروف، كأنّها تحملنا على الوصول للفصول
الأخيرة..
وكانت السّماء
تُبرز لنا نورها تارةً، وتارةً تظلّلنا بغيم كالقطن المتناثر يجتمع بخجل أمام عين
الشّمس رأفة بالمدّ الممتدّ من لا بداية إلى حيث القِبلة التي نُولّي وجوهنا
شطرها..
وكانت أسراب
الطّيور تُحلّق بتناغم مع أرتال البشر المصطفّين بالفطرة لا بالقيد والقانون..
وكان كلّ شيء يسبّح، من حفيف الأوراق، إلى نسمات الصّباح، إلى سكنات الّليل، كأنّ
الموكب في هدوء ناسكٍ مستقبلٍ ربّه في صومعته، ثمّ ينقلب كأنّه يتلوّى في زمجرةِ
لبؤة غضبى..
وكان ما كان من
سطوة العرب وهَيبتهم، فحلّقت المروحيّات ترمينا فتُغرقنا بالوَرد والرّياحين فتعلو
هاماتنا وتستقيم، وتزيدنا إصراراً على الوصول، فنحن المنتصرون، ولا غالب لنا يومها
بعد إذ اعتصمنا بحبل من الله، فلم يقدر علينا عدوّ ولم يفتك بنا سلاحٌ..
وأمّا أهل الفرح
فكانوا يزيّنون الأسوار إذ طال ليل الحزن وآن للفجر أن يحين.. ودارت الواحدة منهن
على الأخريات تجمع أكاليل الغار، وصار الواحد يجمع الفتية يتمرسّون على قصيدة يَلقَون
بها الجموع على البوابة الكبيرة، ويعلون بأصواتهم حتى تصل إلى البعيد الذي لن يقدر
على التقدّم لكثرة الحجيج.. وزيدت المصاطب ليستريح الوافدون، وشُرّعت البيوت
للزائرين في عاصمة العالم الجديدة، وكانت من بعدها سنون كثيرة توحّد فيها العرب
وذابت فيها الحدود وعادت العملة حفنة حنطة وكأسَ لبن ومقداراً من البنّ!