شهدودة الحبيبة..
كل يوم تختارين لك اسم دلع جديد، ولو إن اسمك أجمل من كل مشتقاته.. ولكنني أنصاع لك انصياع المُحب لا انصياع الضعيف..
أكلمك اليوم عن بيتنا، بعد أن ظننتُ أن لن يبقَ لكلماتي إلا جدلية الموت والحياة.. كم مر هذا الأسبوع ببطء، كل يوم منه بسنة.. جاورنا فيه الموت حيث حلّ على الحيّ المجاور، وأخبار التصعيد والإخلاء، ومعلومات خجولة عن وفاق ووقف إطلاق نار.. وفي خضم ذلك كله، حاولت كثيراً أن أحفظ معالم بيتنا لعلنا اضطررنا لإخلائه..
والحق يا ماما أنني كنت كلما نظرت إلى زاوية منه عاتبت نفسي كيف كدت أنساها.. تحفة ابتعتها من محل تجاري عبرت من أمامه أسبوعياً لسنة قبل أن أعتزم الدخول إليه.. قماش الكنبات وكم احترنا حتى اخترناه.. الصحن الذي أسكب لك طعامك فيه.. الرفّ الذي امتلأ مستحضرات تكدّس عليها الغبار.. هل أضيع حبي عليها، أنا التي حكّمتُ عقلي على قلبي حتى ملّ؟ ثمّ يا ماما، حاولت أن أقنع نفسي أنني إن أخلينا-لا سمح الله- سأحظى بفرصة تأثيث منزل جديد.. من يدري، قد يكون أجمل؟ لكن من قال إنني أريد غيره؟ من قال إنني سأحب لزوجي أن يقبل علينا من باب منزل آخر؟ ماذا عن لمساتك التي تتركينها على جدران المنزل؟ الملصقات التي تتوزع على ألعابك وسلال المهملات؟ آثار قلم الحبر على الطاولة الخشبية البيضاء حيث رسمت أولى لوحاتك؟ السجادة حيث سكبت الحليب بالشوكولاتة ثم بكيتِ؟ من قال إنني أبيع ذكرياتي لأجل تجربة جديدة... ما الممتع في تأثيث بيتٍ لا ذكريات فيه؟ لا قصص، لا صدى ضحكات؟ لا حرفاً أول؟
شهد الصغيرة...
لقد عزمت كثيراً أن أكتب سابقاً، عن منزل أحلامي.. ذاك الذي لا أريد لعائلتي أن تضيع فيه.. منزلي الذي أكون ملِكته.. أخبز فيه الكعك وقوالب الحلوى بالقرفة والتفاح، وأتحايل على أبنائي فأستبدل السكر الصناعي بالتمر والموز... منزلي الذي أصرخ فيه على أبنائي كي يستيقظوا، للمرة الألف، قبل أن تفوتهم حافلة المدرسة.. غرَفُه كبيرةٌ ليمدّ كل طفلٍ رجليه فلا تصطدم برأس أخيه، صغيرةٌ بحيث لا يغيبون عن أنظاري.. نرسم سوياً أيامنا، بنكهات شتوية باردة، على وقع صوت مطر بيروت الصارخ.. نشرب الشاي بالنعنع، أو القهوة بالحليب.. أو أخرى صيفية حارّة، نقاومها بكأس مخفوق الفراولة المثلج..
أي حبيبة..
هل يأتي علينا خريف آخر، أراسلك فيه عن خريفٍ مضى لم أحظَ بذكرى لطيفة فيه؟ هل أكلمك عن الخوف أم أمحوه كي لا يعكّر صفو أيامك؟ هل تجعلك قصصي أقوى، أم تُشعرك بالذنب؟ هل تجدين أمنياتي ساحرة أم مسرفةً في الحلم.. هل يبقى لنا بيتٌ، تكبرين فيه؟ هل يُسعفنا الوقت فنشهد على أمنياتك تتحقق؟ أم يسبقنا القطار فنقف على عتبته ملوّحين؟ هل يأتي يومٍ تنتهي فيه الأسئلة؟
هل يكبر البيت معنا؟ يشيخ؟ تبيضّ لحيته، وتغور عيناه؟
هل يبكي، حزناً وفرحاً؟
هل يسمعني أكتب لك قبيل منتصف الليل، على وقع أنفاسك النائمة؟
وهل يدرك أنني أحببته أكثر، حين ذكرتِهِ فقلتِ بحرفك الجديد؛ "جينا على بيتي؟"..
حماك الله وبيتك وسكان بيتك.. ولا حرم الله طفلاً ولا قلب أمه من بيته..
إلى رسالة أخرى،
كوني بخير..
ماما،
بيروت ١١.٥٩
٢١ ك١ ٢٠٢٤